كتب عاطف العلم *:
…أطفأت المباخر جمرَها وتوَهَّجَ الذهب…خرج العطرُ من مخبإه لينثرَ الدرّ والياقوت.هو الحاضرُ المشدودُ بالأجل،عمره يَمَسُّ حدود الأبد.
“انطوان ملتقى”…!! يحصدُ الجراح أكداساً، ينثر الأنجمَ، يغبّ الخمر ويهوي. يدسّ قبلته الأخيرة جبين “لطيفة” يمنحها لقب “أرملة” ويتلاشى ليطويَه الماء بين هديِ الأيّام، ذكرى أكاديميٍّ مبدع،يلفّه الموت على وقعِ تردّدات زمن قد
مضى…
الفنان الراحل أنطوان ملتقى
على طريق المكارّية، بين بيتنا ومدرسة الراهبات الأنطونيّات(رميش)، أتمشّى مع الكتاب،تحضيراً لامتحانات البكالوريا -القسم الثاني.تستوقفني الأخت(إيلان عازار)،تطلب منّي المشاركة في “التمثيل” لعملٍ مسرحيّ سيتمّ عرضه بمناسبة تدشين قاعة المسرح.-سأكون جاهزاً بعد الإمتحانات. نقدّم العرض…أتولّى لجنة الفنون في الندوة الثقافية…يأتي كمال الشويري من مدرسة مار شربل (الجيّة).نبدأ التحضير لعرض مسرحية ميخائيل نعيمه الآباء والبنون…وماذا بعد…؟تلعب الصدفة دورها وانا ابحث عن مجال الاختصاص…كيف لي أن اوفَِّق بين الرغبة والواقع!!؟يرافقني المسؤول عن شؤون الطلّاب إلى “انطوان ملتقى”رئيس قسم التمثيل في معهد الفنون…اشرح له واقع الحال والرغبة وبكلّ الحنوّ الأبويّّ(ما تعتل همّ)…تخوض مباراة الدخول وكن مطمئنّاً…!!
الثنائي المسرحي انطوان ولطيفة ملتقى
لا مكان محدّد لمتابعة الدراسة…قصر العدل القديم جبهات كرٍّ وفرّ…أقصد بيت انطوان ملتقى ، للسؤال عن إمكانية فتح المعهد…-نبحث عن المكان!! في ضوء القانون الذي يسمح بتفريع الجامعة…وكانت الدهشة من “لطيفة”…عاطف!!من الجنوب!!؟ في “عين الرماّنة” وفهمكم كفاية…أين كنّا لا نعرف ولا نسال…وأين صرنا…؟؟
بدا التحضير لسنة التخرّج (مدرسة المانر هاوس…بولفار كميل شمعون) وكان التحدّي ،اربعة مشاريع للتخرّج ولا مرح في المبنى مجهّزا لتقديم العروض…احمل اسطوانتين للموسيقار الألماني”باخ” (هديّة)…اقصد راهبات الصليب جلّ الديب، يرافقني انطوان ملتقى، نستأذنهم تقديم العروض على خشبة مسرح “سان فرنسوا” فكان الترحيب ووضع كلّ الامكانيات بالتصرف…ورغم ممانعة إدارة المعهد ،تقديم مشاريع التخرّج خارج مبنى الجامعة…يقف انطوان ملتقى، المتمرد ، الرافض، الممانع والمقاوم لكلّ البرتوكولات الخشبية المعمول بها ويتحدّى…ننتقل إلى السان فرنسوا…نقدّم المشروع الاوّل، مشروعي،(احتفال بمقتل زنجي) cérémonie pour un noir assasiné..للكاتب الاسباني الاصل ،الفرنسي،فرناندو آرابال صاحب منهج المسرح المتوحّش وصراع الحضارات..ترجمة ريمون جبارة ولا زلت احتفظ بالخطوطة الاصلية بخطّ يده…والذي عاد وقدمها على مسرح sit inn…طبرجا بعنوان قندلفت يصعد إلى السماء…نعود الى موضوعنا، نطبع البطاقات نوزعها على الزملاء والأصدقاء، الاهل والاحباب…ويبدأ التوافد إلى المسرح…انا خلف زجاج غرفة الإضاء والصوت…اراقب…في الصف الامامي انطوان ملتقى ولجنة التحكيم…يتوافد المدعوون …يقف انطوان ملتقى ينتف ما تبقّى عنده من شعر الراس كلما دخلت مجموعة إلى الصالة…ما بال عاطف هذا ؟ الآتي من الجنوب يظنّ نفسه يحتفل ب عرس…ألا يعرف ان هكذا اعمال تقّدم في مسرح للجيب وبالكاد يستسيغها قلة قليلة من المتفرجين…لما هكذا جمهور؟ ويبدأ العرض والانسجام مع التفاعل بمحبة…ويهدا روع انطوان ملتقى…ويصرّح مع لطيفة عن اكتشاف غاب عنهم طيلة السنوات الماضية…مغمورا بالغبطة والحبور يبوح ببهجته بعد انتهاء العرض…وتتتالى العروض…مسرحية الدرسunesco…اقتباس من هاملت شكسبير…ونهاية اللعبة صموئيل بيكيت…اربعة اسابيع كان مهرجان للمسرح …لم يشهده معهد الفنون من قبل…وبالتاكيد من بعد…
الفنان انطوان ملتقى
انطوان ملتقى…مؤسس قسم التمثيل في معهد الفنون بتكليف من د. فؤاد افرام البستاني العام : ١٩٦٥…مؤسس مهرجان راشانا مع آل بصبوص…المسرح الاختباري زقاق البلاط…مسرح مارون النقاش قاعة كنيسة مار مخايل…الجمّيزة…قدّم وصية كلب…على مسرح بعلبك القنطاري..من اعماله ولطيفة ملتقى…ضاعت الطاسة…الازميل انطوان معلوف…انا ناخب للقصصي سعيد تقي الدين…وعشرة عبيد زغار آغاتا كريستي..في المسرح الاختباري ومن ثمّ مسلسلا في تلفزيون لبنان… اخراج جان فيّاض ، زيارة المراة العجوز(مسرح مارون النقّاش ).من معتنقي المسرح الحر…غير الملتزم عقائديا او طبقيا…هاجسه حرية الانسان وكرامته ، لا يساوم ،لا يهادن ويقاوم…امنيته وطناً حرأّ يعيش ابناءه في كرامة ورغد ، هو الذي شلّعت اوصاله غربة ابنائه عنه طلبا للعلم والتفوق فكان جيلبير باحثا في الفيزياء النووية…فرنسا…و زاد عازف البيانو الذي يجوب العالم بموسيقاه وابداعاته…وابنته جيهان في الامم المتحدة لأبحاث البيئة والطبيعة…اطال الله بعمر رفيقة المسيرة لطيفة….التعازي القلبية الصادقة والحارة…للعائلة الاهل والاصدقاء في الوطن والمهجر …لخريّجي معهد الفنون …ينثرون تراث وتعاليم استاذهم الابوي والابدي…دررا في عالم الفن والإبداع…قلوبنا حزينة على فقدك…رحمك الله بالمغفرة استاذي معلمي وصديقي ، لقد تحققّت امنيتي يوم وقفت قبالتك في مسلسل جريمة في القلعة…وعندما خانتك الذاكرة…رحتَ ترقص بعصاك (…اختك يا انطوان كيف تنسى وتقع في هكذا جرصة بين زملائك وتلامذتك) . أفسَح الله لك اللائقَ في جنانه…وداعا انطوان ملتقى…
(*) عاطف العلم : فنان لبنان ، خريج مسرح وعضو نقابة وله أعمال كثيرة في السينما والمسرح والتلفزيون .
الكاتب الفنان عاطف العلم