طوق الأمل …
بقلم الكاتبة : ريم العيساوي
ا……………ا
اللون الأخضر يأسرني، وأحسّ بجاذبية لكلّ شيء أخضر: الطبيعة وعشبها الزبرجديّ، واحاتها الممتدة بين صحاري الجنوب، خضرة البحر في فصل الشتاء، لون حجارة الزمرد الصافية، تنبع من اللون الأخضر طاقة سحرية تشحذني قوة وتنفخ في روحي عنفوانا عجيبا. وكلما أقتني من دولابي ثيابا خضراء أو أغلبية ألوانها من ذاك اللون. تتوهج خلايا دمي وتتيقظ نفسي من سباتها. لقد اكتشفت عبر رحلتي في الحياة طاقة الألوان واكتسبت أساليب ترويضها واستدرار فاعليتها، الأخضر عندي ملك الألوان وبطل الحكايات وسيد الأساطير.
هذا اللون لا يغريني في الطبيعة أو في اختيار اللباس فقط، بل بلغ هيامي به أن أتخيّر الحليّ من فيضه وإشعاعه، ولمّا عرف أحد الأقارب تعلّقي بسيد الألوان هذا، اغتنم فرصة عيد ميلادي وجاءني بهدية ثمينة تمثّلت في علبة فاخرة من الحرير الأخضر، مطرزة بأسلاك ذهبية تحوي عقدا جميلا من حجارة الجاد، ثلاثي الأطواق وقدمها إليّ مباركا عشقي لهذا اللون، ومباركا عيد ميلادي، كانت سعادتي بالعقد سعادة من استرجع شيئا ثمينا، ظلّ طويلا يبحث عنه.
وازدادت سعادتي وفاضت على أجواء عيد ميلادي عندما، أخذ القريب يمجّد خصال العقد وطاقاته الروحية قائلا:” حجارة الجاد حجارة كريمة، وتسمى كذلك اليشم، ولها مزايا روحية، ومنها قوّتها في جلب الحظ للابسه، كما أنّها تهب الصحة السليمة وتمنح الثروة والحب، وتساعد على تحقيق الأهداف
وإبراز الطاقات الكامنة ويساعد حجر الجاد أيضا على حل المشاكل العاطفية، ويمكن من الأحلام السعيدة إذا وضعت قطعة منه تحت الوسادة أو بداخلها أثناء النوم، وقيل إن وضع قطعة من حجر الجاد داخل خزينة المال التي نضع فيها مدخراتنا يجلب المزيد من الوفرة والبركة لهذا المال ويقوي الاعتماد على الذّات ويعزّز الثقة فيها.
وحجر الجاد يبعد الأفكار السلبية ويملأ النفس سلاما وأمانا، كما أنّه عنصر شفاء ممتاز، وهو أيضا مقوّ جيّد للجهاز الهيكلي بشكل عام وله فاعلية في تهدئة الجهاز العصبي، ويبعث طاقة شافية إلى الكبد والمرارة والمثانة والكليتين، ويعمل على تجديد خلايا الجسم. فهو يعتبر حجر الحظ السعيد. وله مميزات جمة يصعب حصرها.
قاطعته: -معناها، هديتك حملت لي الحظ السعيد؟ أشكرك على ذوقك الراقي واختيارك الرفيع للعقد الجادي الثمين، أشكرك شكرا جزيلا. حسب قولك فإنّنا لا حاجة لنا للأطباء.
انتهى حفل الميلاد وبقيت علبة الهدية بين يديّ وقبل النوم وضعتها داخل الدّولاب في الرفّ المخصّص للأشياء الثمينة، بجانب صندوق بعض الحليّ وعلبة تجميع الحجارات الكريمة، وعلبة بخور العود هدية من صديقة خليجية. تحلّيت بذلك الطوق مرتين أو ثلاثا، خوفا من إتلافه وضياعه.
كانت ليلة من الليالي المباركة في شهر رمضان وبعد صلاة العشاء، وقراءة قسط من القرآن الكريم، لذت للفراش وتناولت هاتفي المحمول، متجوّلة بين المواقع والبوابات، ها أنا في موقع للدراسات والبحوث، ثم تحولت إلى موقع المؤتمر لأطلع على مضامين البحوث الجامعية وقضايا المؤتمرات. توقفت عند بوابة ملتقى الرواية المعلن عنه في شهر جوان بسوسة، حاولت إرسال مشاركتي فيه لأهمية المحاور التي ستقدم فيها مداخلات حاولت مرتين التسجيل، تعذّر التواصل فلذت إلى المسنجر بتوجيه طلب مشاركتي، كان الجواب: تجدين الرابط في الأعلى.
طاقات الحجارة الكريمة في العلاج. أجّلت محاولاتي ليوم الغد، خاصة وقد انفتحت بوابة
توقفت عند طاقة حجر الجاد واستعدت عبارات القريب الذي أهداني العقد يوم عيد ميلادي وعباراته وإبرازه لمزاياه.
وقلت في داخلي: منذ أيام والنوم يعاديني والأرق أخذ مني كل مأخذ، لأجرّب ما ذكر عن هذا الحجر ماذا لو وضعته تحت وسادتي؟
فتحت الدولاب، أبعدت العلب، علبة علبة: علبة الحجارات الكريمة صندوق الحلي، صندوق أقلام الكتابة، علبة العطور، لا أثر له، شككت في البداية في سرقته، لكن من مدة لم يدخل بيتي ولا غرفتي أحد، قلت: زعمه طيحته يوم ذهبت لختان ابن جارتنا؟
أو يوم ذهبت للحفلة الموسيقية بدار الأوبرا بمدينة الثقافة، يا الله إن شاء الله أجده، إنّه لعقد جميل وأثير ليفتش زوايا الرف وتحته اعتقادا مني أنه تزحزح من بين طيات الملايات المرصّفة في رفّ الدولاب، فتحت حقيبة يدي المحاذية لعلبة الحليّ. لا أثر له، اعتراني شعور غريب …نوع من المرارة والأسى. أضعت الكثير من أشيائي الثمينة ولم أحزن، لكنّ فقداني لعقد الجاد سبّب لي إحساسا بالأسى والكآبة. أسرعت الخطى نحو الطابق الأرضي ،حارقة الدرج بنزول درجتين عوضا عن درجة واحدة ،فتّشت فوق التلفاز ، حوله وفي زوايا الدواليب فتحت كلّ رفوفها ،لا أثر له ،أحدثت فوضى الأشياء المبعثرة على أرضية غرفة الاستقبال شعورا باليأس ،فتشت زوايا أرائك المجلس إذ كثيرا ما تتخبأ الأشياء الضائعة كمفاتيح البيت ومفاتيح السيارة وأجدها مندسة بين زواياها ، تمكّن بي الخمول أمام منظر الفوضى المخيف ،لذت لبيت الطعام أحلم بالعثور على طوق الجاد في أحد الأدراج أو تحت مفارشها المنمنمة بقماش “الدانتيل ” وبعد إرهاق قررت العودة لغرفة نومي طلبا للراحة والاسترخاء .
غفوت غفوة لا تزيد عن نصف ساعة، ثم جذبني همّ التفتيش عن العقد فنهضت قاصدة دولابي مرة ثانية لتدقيق البحث عنه، فتحت الدولاب، فإذا بالعقد أمامي ينظر إليّ بعيونه الزمردية الشفافة وصدمت لوجوده منتصبا شامخا أمام عينيّ وقد قلبت البيت رأسا على عقب من أجله وكأنّه يقول لي: -أرهقتك في حملة التفتيش هذه؟
أخذته بحنو كبير ودسسته بين كفيّ آملة منه إشعاع طاقته السحرية حتى أنام، وضعته تحت وسادتي وحاولت معانقة الكرى، مندسة بين طيات الأغطية وبين طيات الظلام…
بين اليقظة والمنام دغدغت أنفي رائحة عطر لطيف ،وألحّت عليّ فاستفقت على مشهد فتاة ملائكية الملامح ، تشع نورا في لون الشّفق وبادرتني بابتسامة آسرة قائلة :- حياك الله أيتها الكاتبة ،جئت لأعتذر لك عما سببته لك من تعب في البحث عن عقدك ، لا تلوميني عشقته مثل عشقك له وأخذته دون إذن منك لأتزيّن به في عرس أختي ،وكما تعلمين نحن مخلوقات شفّافة نحب كلّ شيء شفّاف وخاصة الكنوز واللآلئ والحجارات الكريمة ،لا تجزعي إذا أخذته منك مستقبلا ،فهو حلالك ولابد أن يردّ إليك ،حين رأيت انهيارك من فرط التعب ، أشفقت عليك وأرجعته لمكانه في الدولاب .
اعترتني دهشة مريعة وتعطب لساني، وحاولت تخليصه من عطبه ونطقت في وجل: -حسب كلامك صار العقد ملكا مشتركا بيننا؟
قالت:
-هذا إذا أردت، أما الآن أدعك لنوم هنيء، بعيد عن الكوابيس والهلوسات ولتكن ليلتك من لون الجنان الخضراء أو من لون عقد حجارة الجاد المعشوق …
ومن هنا غرقت في نوم عميق لم يفقني منه سوى جرس هاتفي.
ريم العيساوي
تونس
الكاتبة ريم العيساوي