مقالة ” السبت الثقافي ” بقلم الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
إنهيار القيم الإنسانية عند تخوم غزة يحتم التفكر بغد أجيال الإبادة الجماعية.
-×-×-×-
كتبت دلال قنديل :
تطرح الحرب الوحشية على غزة المستمرة بأشكال متنوعة ، رغم الهدنة الإنسانية، أسئلة وجودية،عن جدوى الثقافة والحداثة والفلسفةوالفكر إن لم تُسخر كلها في خدمة الإنسانية؟.
أمام هول المجازر “المستدامة” يخيل الينا أننا وُلدنا لنتمرس على موتنا الذي يطل كلما حاولنا التخفف منه.كأن العالم بصمته المتمادي، إن لم يكن بصناعة ماضي حروبنا التي مازالت حاضراً،يطلق إشهاراً بأن شعوبنا وُجدت لتتمرس على تقبل موتها والسير بصمت في قوافله.
نتضاءل أمام هول كل مجزرة، نلملم ما تبقى منا بعد زمن قصير وقد يطول عمراً، نبتلع خسائر الفقد، مشاهد القتل والدم والحسرة. نُقنع أنفسنا بأن الحياة أقوى وأن الموت عبورٌ حتميٌ اليها.
تكبر صدمتنا بحروبنا المكررة. كم تشبه منازل غزة قرى لبنان بشماله وجنوبه، تلك الوجوه المذعورة والأجساد المتهاوية تحت الركام، الأبنية المكومة بسنتميترات قليلة، أَفرغت منها الأسلحة المتطورة الهواءَ فوق رؤوس قاطنيها…كأننا نعرف تلك الازقة دون أن ندخلها، توقظ الأسى فينا. من قال أننا نسينا؟.
أكثر ما يثير الحزن التفكر بجيل يرثُ تلك التجارب . جيل من الأطفال الذين حفظنا أسماءهم وحكاياتهم في ليالي غزة الدامية.
كيف سيكملون حيواتهم؟أي مستقبل ينتظرهم؟
مهددون كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة بالرعب والقتل والدمار، كيف لهم أن يخطوا طريقاً للمستقبل قبل التجاوز؟ وهل من سبيل للتجاوز؟.
فلسطين الأم، للفنان الفلسطيني نبيل عناني
Mother Palestine, Nabil Anani (Palestinian artist)
في دراسة نشرتها منظمة الصحة العالمية هذا العام، قبل أشهر من حرب غزة التي لا بد أنها ضاعفَت الأرقام، يشير الدكتور خالد سعيد المستشار الإقليمي لأمراض الصحة النفسية في المنظمةالى أن واحداً من كل ثمانية أشخاص يعاني من اضطراب عقلي، ويرتفع معدل انتشار الاضطرابات النفسية بين السكان في مناطق النزاعات.
ووفقا لتقديرات منظمةالصحةالعالمية، “فإن 22.1 في المئة (أي واحد من كل خمسة) من الأفراد الذين تأثروا بالمحن في الأشهر الـ 12 الماضية يعانون من اضطرابات نفسية، 13 في المئة يعانون من الأشكال الخفيفة من الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة، و4 في المئة يعانون من الأشكال المتوسطة، و5.1 في المئة يعانون من اضطرابات شديدة مثل الفصام، والاضطراب ثنائي القطب، والاكتئاب الشديد، والقلق الشديد، واضطراب ما بعد الصدمة الشديد، بالتالي، يعاني 9.1 في المئة (حوالي 1 من كل 10) من اضطراب عقلي شديد الخطورة يمكن أن يضعف قدرتهم على العمل والبقاء على قيد الحياة في حالات الطوارئ”.
وتتقاطع الدراسات على تحديد مؤشرات ومظاهر الصدمة المتأصلة التي تستوجب المتابعة والعلاج:
إحياء الحدث مراراً وعدم مغادرته مطلقاً رغم تبدل البيئة والمعطيات،تجنب مقاربة أماكن الحدث أو الشخصيات المرتبطة به،وصولاً الى الإنكار أي عدم الإقرار بالنتائج التي تركتها الازمة كوفاة شخص عزيز أو فقدان البيئة الآمنة. قد يكون التعبير عن التأزم نقيض ذلك ايضاً بتكرار الحديث عن الحدث عمداً بالكلام واللعب والتفكير.من المظاهر الواضحة طبعاً الأرق والكوابيس ومشاكل النوم كلها مؤشرات على عمق الأزمة النفسية المتأصلة،الشعور بالقلق وضيق التنفس أو التململ المستمر،نوبات الغضب المفاجئة،
ضعف التركيز والشرود ورفض الإنخراط بأي نشاط إيجابي كأحد مظاهر الاكتئاب الحاد.
توصي الدراسات النفسية المتعلقة بالأطفال أنه إذا ما زال الطفل يواجه مشاكل بعد حوالي 4 أسابيع من التجربة الصادمة، أو إذا كانت الأعراض مزعجة بشكل خاص يفترض أن يخضع للعلاج النفسي الفوري ومن أُولى شروطه توفير بيئة آمنة. يفترض اللجؤ الى مختص لترتيب التقييم وتشخيص اضطراب ما بعد الصدمة. حيث يجب أن يكون حدثٌ معينٌ قد تسبب في ظهور الأعراض، قد لا يرغب الأطفال في التحدث عن الحدث مباشرة. يمكن إجراء العلاج النفسي الذي يُمكنُ للطفل من خلاله التحدث، أو الرسم، أو اللعب، أو الكتابة عن الحدث المُجهِد مع الطفل أو العائلة أو المجموعة؛ حيث يساعد العلاج السلوكي -وخاصة العلاج السلوكي المعرفي الأطفال- على تعلُّم تغيير الأفكار والمشاعر من خلال تغيير السلوك أولًا لتقليل الخوف أو القلق، وصولاً الى استخدام الأدوية لتقليل الأعراض.
لو نحصي خساراتنا بعد كل حرب او مجزرة لوجدنا أن التشظي الذي يولد القلق هو أكبر الخسائر التي تحتاج زمناً للتعافي.قد تنجح العلاجات، إذا وجدت ،
بالعودة لحياة طبيعية وقد لا تنجح.
تُظهر التجارب أن سنوات الحرب التي عاشها اللبنانيون على مدى ثلاثة أجيال وما زالوا يعيشون آثارها وتفاعلاتها رسخت مجتمعاً مأزوماً ومهزوزاً لا يركن لغده،يلجأ للمهدئات،يميل للعدوانية والتعصب والانغلاق والأنانية،تضمحل فيه مساحات الفرح والتسامح في التفاعل الإجتماعي والمؤازرة.
مجسم من غاليري أكاديميا في البندقية
لا بد أن نسأل عن سبل مراكمة التجارب والإستفادة منها،هل علينا أن ننتظر ثلاثة أجيال أخرى للبوح عن حجم الأسى الذي يعشيه أطفال غزة ونساؤها ومسنوها؟ أضف اليهم عشرات الملايين الذين تأثروا بالمجازر وكل من شاهد بعجز عبر الأثير هذا الكم من الجثث والمقابر الجماعية؟.
من لم يلحظ عيون الأطفال بعد كل مجزرة وأجسادهم المرتجفة المعفرة برمادي البارود وأصفر الفوسفور وأبيضه؟ما زالت وجوه ضحايا الفوسفور بتدرجاته بين الأبيض والاصفر وصولاً للأحمر في لبنان ماثلة في الذاكرة.وجوه مدنيين كان يصعب عليّ التعرف اليهم في المستشفيات بعد ساعات الليل التي غادرت بها. منازلهم. وجوه متضخمة، أجسادمحروقة ومشوهة ،رائحته لا ما أن تختبىء لتطل من جديد،من ثنايا الجلد وتحت الأظافر،
كيف ننجو من كوابيس ما شهدناه؟كيف يحلم طفل بلعبة بعد خروجه ربما وحيداً من بين أكوام الراحلين؟
ليس من باب الترف أن نفكر بالتقليل من معاناة مئات آلاف الأطفال من ضحايا غزة،رغم ثقل اللحظة الوجودية التي نحياها بإنهيار القيم الإنسانية دفعة واحدة عند تخوم حرب الإبادة تلك،فمن المسؤولية التفكر بهشاشة هذه الكائنات الرخوة والهشة وأن نسعى لتخفيف معاناتها قدر المستطاع بإبعاد أوسع شريحة منها عن رائحة البارود والقتل والتدمير والإبادة .لاسيما أن طريق الحرب طويل. ستبقى الحرب كما يبدو عنوان المرحلة لردح من الزمن.
بعض الوسائل العلمية في التدريب تحث على التنفس والرسم لكسر جدار الصمت ومحاولة الخروج من الصدمة.يتطلب ذلك تركيز الجهود على إنقاذ الأطفال من كوابيسهم ،من عوالمهم الكئيبة وما شهدوه من قتل ودمار، تلك الصور المتلاحقة المروعة التي إستقرت في ذاكرتهم لن تتزحزح إن لم تتوافر ظروف للطفل آمنة تتيح له الاسترخاء للتدرب على تقنيات الحد من التوتر والتحرر منه، مثل التنفس البطيء وتمارين العضلات المتصلبة بفعل الصدمة.
تحفيز الأطفال على الرياضة والجهد الجسماني يمنحهم فرصة للإبتعاد عن هواجس الخوف. يمكن أن تساعد الرياضة والمشي أونفخ فقاعات الصابون كتدريب على التنفس في تحقيق ذلك أيضاً.
تلك الوسائل البدائية مهمة لأنها تحتاج وعياً فردياً لتعميمها فيما العالم يغلق عينيه عن مآسينا.
أمهات فلسطين ،كأمهات لبنان يدركن بالخبرة الفطرية التمرس على تجاوز مخاوفهن وكبتها لمنح الطمأنينة والسلام لعوائلهن ولمجتمعاتهن.
شاهدنا أي قوة “حديدية” تولدها الأزمات فيهن وعايشن بالتجربة تأثير تلك المهالك على مشاعر الأمهات وحيواتهن وإستحالة التغلب على مآسيها دون الوعي لحجم مخاطرها غير المنظورة.
دلال قنديل/ إيطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل