السبت الثقافي :
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل تحاور الباحث فرنشسكو مديتشي ( الجزء الثاني )
-جبران كان معارضاً بشدة للانتداب الاوروبي ولم ير فيه خلاصاً من العثمانيين.
-نجح جبران بصفته صوفياً في إيجاد معنى روحياً حتى في الحرب لأنه كان يعرف قدسية الحياة.
-×-×-×-×-
كتبت دلال قنديل :
نتابع نشر الجزء الثاني من الحوار مع الباحث الأكاديمي والمترجم فرنشيسكو مديتشي الذي تحدث عن أهمية المعلومات والوثائق الجديدة التي إكتشفها مؤخراً والمتعلقة ايضاً بمواقف جبران وسيرته السياسية.
وقد ورد في الجزء الاول من الحوار معه أنه وفق وثائق باتت معتمدة فأن جبران “تعرض خلال حياته لهجومين على يد الأتراك عندما كان في باريس، ومن ثم، لدى عودته إلى أمريكا،تلقى عدة تهديدات بالقتل، مرة أخرى من العثمانيين، باعتباره قومياً عربياً.
وحتى في الولايات المتحدة كان لجبران العديد من الأعداء. ابتداءً من عام 1917، مع دخول الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى وعقب اندلاع ثورة أكتوبر في روسيا.وكان لجبران يومها بين معارفه العديد من الاشتراكيين والشيوعيين والثوريين.”
يروي الباحث الايطالي بالادلة الموثقة كيف ان جبران” أثار شكوك المخابرات الأمريكية التي قررت، في صيف عام 1918، مستغلة غيابه، دخول شقته الاستوديو للبحث عن أدلة على تعاطفه المزعوم مع البلشفية.
ولم يجد العملاء السرّيون ما يؤكد هذه الاتهامات، رغم أن جبران كان بالتأكيد مهتمًا ومفتونًا جدًا بالاشتراكية، لأنه كان يعتقد أنها إذا طبقت وفق العدالة والإنصاف، يمكن أن تجلب الديمقراطية والحرية للعالم.
الباحث فرنشسكو مديتشي
الجزء الثاني من الحوار :
-هل تعتقد أن العالم ينظر إلى الأدب وفق معايير سياسية؟ وقد يعيد البعض تقييم أدب جبران وفق معيار، مواقفه السياسية؟
تنتمي كتب جبران الآن إلى ما يسمى بـ«الكلاسيكيات»، أي الأعمال الخالدة القادرة على مخاطبة القراء في كل مكان وفي كل زمان. بالتأكيد، في الوقت الحالي، لا توجد دراسات متعمقة حول التزامه السياسي وكيفية تأثير فكره السياسي على كتاباته (كما حدث مثالاً على ذلك مع كتاب آخرين في حقبته مثل أمين الريحاني على سبيل المثال). من المؤكد أن القراءة السياسية لأعمال جبران ستكون مثيرة للاهتمام للغاية ومصدرًا لرؤى جديدة.
–الشرق الأوسط مليء بالحروب المشابهة للحرب العالمية التي عاشها جبران. كباحث متخصص في سيرته ومتعمق بمواقفه السياسيةايضاً، أين تجد صدىً لأفكاره اليوم؟
-إن الحروب التي لا نزال نشهدها في الشرق الأوسط هي للأسف نتيجة تقسيم تلك البلدان من قبل القوى الغربية والحدود المصطنعة التي رسمتها الحكومات الأجنبية دون مراعاة اللغات والتقاليد والمجموعات العرقية والأديان وعادات الشعوب التي سكنت وما زالت تسكن تلك الأراضي.
إن العديد من الصراعات التي نشهدها اليوم تنبع في المقام الأول من الخيارات السياسية البغيضة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الإمبراطورية العثمانية.
كان جبران دائماً معارضاً حازماً على عكس العديد من مواطنيه، المقيمين في الخارج (مثله) أو في الداخل.
على سبيل المثال،كان معارضاً بشدة لـ “الانتداب” الأوروبي (مثل الانتداب الفرنسي على جبل لبنان) والتدخل الأجنبي. وفي رأيه أن الانتقال من النظام العثماني إلى استعمار وإمبريالية الغرب لم يكن على الإطلاق طريقًا لخلاص الشرق الأوسط.
شهدت بداية القرن العشرين ولادة حركة ثقافية روج لها العديد من المثقفين السوريين اللبنانيين الذين هاجروا إلى أمريكا، مما أدى إلى ظهور العديد من الأوساط الأدبية في الخارج، أهمها “الرابطة القلمية” في نيويورك (المعروفة أيضًا باسم “جمعية القلم” في نيويورك). تأسست تلك الرابطة القلمية ،كما هو معروف، عام 1920، وضمت الى جبران كُتاباً مثل ميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وأمين الريحاني.
جبران خليل جبران
تشهد هذه الركائز (رواد) الأدب العربي في القرن العشرين على التأثير الأول للتاريخ بين الشرق والغرب، والذي ثبت أنه لم يكن صراعيًا، كما يحدث للأسف اليوم، ولكنه مثمر للغاية.
بل دشنوا لغة شعرية جديدة، وعملوا على نشر رسالتهم العالمية للسلام والأخوة بين الشعوب والأديان، انطلاقاً من الشعار الذي اختاروه لدائرتهم : «إن لله خزائن تحت عرشه مفاتيحها ألسنة الشعراء». وكلام جبران رمزي في هذا الصدد: «لا إله إلا الله، لا شيء إلا الله. .يمكنك نطق هذه الكلمات والبقاء مسيحيًا، لأن الله، في صلاحه اللامتناهي، لا يعرف الفصل بين الأسماء والكلمات، وإذا رفض الإله بركاته لأولئك الذين يتبعون طريقًا مختلفًا نحو الأبدية، فلا ينبغي لأي إنسان أن ينطقها تعظيما له”.
يبدو أن رسالة جبران وكتّاب دائرته اليوم قد نُسيت، في العالم العربي كما في الغرب، وربما يكون “صدام الحضارات” الذي نشهده في عصرنا، بحسب البعض، هو النتيجة أيضًا لهذا النسيان. في عصر، مثل عصرنا هذا، يتسم بالصراعات الدموية التي لا نهاية لها، وتصاعد الإرهاب، وظواهر الهجرة التي غالبًا ما تؤدي إلى نتائج قاتلة، وتفشي مشاعر التعصب وكراهية الأجانب، يبدو من الضروري أكثر من أي وقت مضى العودة إلى أفكار هؤلاء الأشخاص.
جبران وحتى بعد ما يقرب من قرن من وفاته، لا يزال لديه الكثير ليُعلمه فيما يتعلق بالحوار بين الثقافات والأديان: «أحبك أيها الأخ، أيًا كنت، سواء كنت تنحني في كنيستك، أو تركع في معبدك، أو تصلي في معبدك. في مسجد . أنا وأنت أبناء دين واحد، لأن طرق الدين المختلفة ليست سوى أصابع يد محبة لكائن أسمى واحد، يد ممدودة نحو الجميع، تقدم كمال الروح للجميع وترحب بالجميع.”
-هل ترى ان علينا إستعادة قيمنا الإنسانية لمواجهة الحروب؟ كدعوة كامو للانحياز فقط في المعركة للسلام، وهل تتناسب هذه المعايير مع فكرة جبران ومواقفه من وجهة نظرك؟ام هذه طوباوية ؟
-في إحدى قصائده الشهيرة، يمجد جبران ليس النصر، بل الهزيمة، كوسيلة للارتقاء الروحي:
“هزيمتي، هزيمتي، وحدتي وعزلتي؛
أنت أحب إلي من ألف انتصار،
وأحلى على قلبي من كل مجد الدنيا.
[…]
هزيمتي، هزيمتي، شجاعتي التي لا تموت،
أنا وأنت سنضحك معاً مع العاصفة،
وسنحفر معًا قبرًا لكل من يموت فينا،
وسنقف في الشمس بإرادة،
وسنكون خطرين.
هزيمتي، هزيمتي، عزلتي وخصوصيتي؛
أنت أحب إلي من ألف انتصار،
وأحلى لقلبي من كل مجد العالم.
[…]
هزيمتي، هزيمتي، شجاعتي الخالدة،
أنا وأنت سنضحك معاً مع العاصفة،
وسنحفر معًا قبرًا لكل ما يموت فينا،
وسنشرق في الشمس بإرادتنا الثابتة،
وسوف نكون خطرين على الجميع”.
على أية حال، لم يكن جبران محباً للسلام كغاية في حد ذاته. وأعني بذلك السلام الذي يُفهم على أنه جمود، وقبول سلبي للانتهاكات والطغيان والقوانين التي عفا عليها الزمن، بل كان مدافعاً قوياً عن العدالة.
ذات مرة، في إشارة إلى الحرب العالمية الأولى المستمرة،
هذا ما تضمنته رسالة جبران إلى ماري هاسكل، 18 مارس 1917:
«الحرب العظمى بدأت تكشف عن معناها الحقيقي. التغييرات في روسيا ليست سوى البداية، وسوف تتبعها بلدان أخرى. أعتقد أنه في وقت قصير، مثلا، خمسة وعشرين عاماً، سيخلق وعي الأجناس حكومات للأجناس. إن الذات القديمة للجنس البشري تموت بسرعة، أما الذات الجديدة فتنهض كعملاق شاب. إن ألمانيا والنمسا تلمحان مستقبلهما بالفعل ــ وأولئك الذين يحكمون النمسا وألمانيا حاليا يشعرون بالخوف. إن أبواب الجنة الآن مفتوحة على مصراعيها، ولا قوة في الأرض تستطيع أن تغلقها. روح الأمس لم تعد موجودة وصوت الأمس ما هو إلا صدى. سيكون للغد روحه الخاصة وصوته الخاص. وروح الغد هو العدل وصوت الغد هو العدل. كل هذا رائع يا ماري، وأنا سعيد لأننا نشهد هذا التغيير الهائل. وتعلمين جيداً يا مريم أنه لا شيء يحدث للإنسان، رغم أن الأفراد قد لا يكونون على علم بما يحدث لهم على الإطلاق. الحياة لها مواسمها. الآن نسمة الربيع في الهواء، ولا يوجد قياصرة في هذا العالم قادرون على إعادة عقارب الزمن إلى الوراء”
باختصار، نجح جبران، بصفته صوفياً، في إيجاد معنى روحي حتى في الحرب، لأنه كان يعرف قدسية الحياة. إن ما نشهده اليوم هو الفقدان التام لمعنى المقدس في الوجود الإنساني. كل ما يمكننا فعله هو أن نلتزم جميعًا بشكل فعال حتى تفتح “أبواب الجنة” مرة أخرى ويتمكن الجنس البشري من إعادة اكتشاف هويته وكرامته المفقودة.
دلال قنديل
ايطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل