سلسلة أماكن خاصة:
عش البلبل
تبلغت وأنا في قريتي، بمشتى حسن، في أقصى عكار، قرار تعييني مدرسا في 1/0/1969، وأن علي إستلامه من بئر حسن. في يوم السبت، من التاريخ نفسه. إنطلقت إلى بيروت، قبل الفجر بقليل. وكنت أرى الثعالب في كروم عندقت على ضوء مصابيح سيارة الأجرة: سيارة الشوفير أبو محمود. كان يصلي الصبح حاضرا، ويخرج إلى طرابلس، ولو براكب واحد. أو حتى بلا ركاب. يريد أن يحافظ على مواعيده في الذهاب وفي الإياب.
صعدت إلى أول باص، من نقليات الأحدب بطرابلس. ووصلت إلى بيروت عند الساعة التاسعة صباحا. ومن هناك إلى بئر حسن فورا. لم يكن يخطر على بالي، أني سألتحق في اليوم نفسه، في المدرسة التي عينت فيها: مدرسة طيرفلسيه الرسمية المختلطة.
نظرت بقرار التعيين. ونظرت في تاريخ الإلتحاق. نظرت في وقوعه يوم السبت. كنت بين من كان هناك من الزملاء المعينين. سمعت أحدهم يقول: لنذهب إذا فورا، حتى لا نضيع علينا أجرة يومين: السبت والأحد. ذلك أن التأخر عن الإلتحاق، يرتب علينا الإنتظار ليوم الإثنين. سمعته يقول أيضا: لما نضيع علينا أجرة يومين.
حسمت الأمر في نفسي. قلت: “عند جهينة الخبر اليقين”. سألت عن الطريق، إلى بلدة طيرفلسيه، في قضاء صور. كنت أسمع بها، من زميل سبقني للتدريس في المدرسة نفسها، قبل عامين. كان يحدث عن تجربة العيش فيها، وعن تجربة التعليم فيها. كان يمتلئ شغفا حين يذكرها، ويشوقنا لرؤيتها، وما كنت أدري، أني سألتحق بها، بعد تخرجي من دار المعلمين، بطرابلس.
قلت في نفسي: لم لا!. إستقليت سيارة أجرة إلى ساحة البرج. ومن هناك إنطلقت من كراج الجنوب، بالبوسطة إلى مدينة صور في أقصى الجنوب.
كنت لأول مرة، أخرج بصحبة البحر إلى صور. ما تجاوزت معرفتي سابقا، حدود بحر صيدا. فحين أخذت البوسطة تشق طريقها بعد صيدا، كنت أتخيل نفسي، أني ذاهب لأسلم على الإسكندر. أوشوش النملة التي علمته الصبر. كان ينقصني الصبر. كنت أعيش في سباق يومي مع الزمن، منذ طفولتي. أسبقه أحيانا، ويسبقني أحيانا كثيرة.
هذة المرة حسمت الأمر. لم أتردد في التصميم على سباق الزمن، في الوصول إلى طيرفلسيه، لقطف أجرة يومي تدريس، أنا بأمس الحاجة، ولو لأجرة يوم واحد، فما بالكم بأجرة يومين.
شقت بنا البوسطة طريقها بعد صيدا. بدأت أحصد ما زرعت، طوال الوقت. كنت أعبر صيدا. أعبر طريقها الذي يشق قلب المدينة إلى نصفين، بعد ساحة النجمة. ما كنت أعرف ما كان يقع خلفها، من بساتين ومن جنائن. كنت أظن أن جنائن الليمون بطرابلس، هي آخر كنز في آخر الدنيا. وكلما تهادت بنا البوسطة، كلما كنت أكتشف بلدات الساحل واحدة واحدة. كنت أحدق إلى الشاطئ الرملي، فأرى الرمل مصبوغا بدم الموريكس الأحمر. كنت أرى بأم عيني كيف يصبغ دمه الأحمر الرمل والبحر. كنت أستعيد ذاكرة دروس التاريخ. وكذلك ذاكرة دروس القراءة.
سألت في صور ساعتئذ، لا عن نملة الإسكندر، حين رأيت ذلك المنبسط من الرمل، الذي كان ينتشر عليه جيش الإسكندر. وإنما سألت عن كراج طيرفلسيه. فإذا بالسائق ينتظر الراكب الخامس الذي هو أنا، وقد وصل للتو إليه.
عدنا إلى مفرق بلدة العباسية، الذي كنت تجاوزته بالبوسطة. غلت بنا السيارة في بساتين الليمون. ثم تصعدت بنا إلى كروم الزيتون. تجاوزنا دير قانون النهر. وصلنا إلى مفرق ديردغيا. إنحدرت السيارة الصغيرة بنا، إلى طيرفلسيه. والسائق، لا يفتأ يحدثني بكل شوق، حين علم أنني (مزدوج الجنسية)، من عكار و من طرابلس.
وقفت بنا السيارة في ساحة البلدة، قرب البركة. كنت أرى لأول مرة، كيف تحمل صبايا القرية على رؤوسهن طبق الغسيل إلى البركة. إهتديت إلى الزاروب، الذي يصل إلى المدرسة. بناء حجري من طابقين وملعب، على ربوة. لم أجد المدير. سلمت القرار للناظرة. شككت رمحي، وقصب السبق. فخرجت الناظرة بي إلى الشرفة قليلا. كنت أتعرف من حديثها الودود معي، على نواحي وحارات البلدة، التي عدت إليها بعد أربعين عاما، ووجدتها جميلة كما دير دغيا. كانت كما هي.
عدت إلى قريتي، حملت حوائجي، وأسرعت من جديد إلى طيرفلسيه. وجدت أمامي، صحبتي من الزملاء في دار المعلمين. كنا نتشاور في طلب السكن. سكنوا مع بعضهم، في شقة، قرب المدرسة. وإخترت أن أسكن وحدي، ولو في غرفة بعيدة. وجدتها في أعلى التلة المشرفة على الليطاني، وبلدة الزرارية. كانت تحيط بها كروم التين والزيتون والعنب.
دار واسعة. بها أهلها. وغرفة مهجورة لصاحب البيت، أبو عباس، الذي يعمل نجار باطون في الكويت. دخلنا إلى الغرفة بصحبة أم عباس، المدير، وأنا.
فتحت لي أم عباس باب الغرفة المطلة على الكرم. على الليطاني. صرت أتفقد حاجتي إليها. نظرت إلى السرير المفرد. كما إلى خزانة فارغة. وإلى الحمام، بداخل الغرفة. وإلى شباكه المطل على الليطاني والزرارية والكرم بجلوله، و”درب الفدائية”، و”متراس” الجيش. لكنني وجدت في النافذة أكثر مما إشتهيت. وجدت فرشاة للذقن. وعشا حديثا مرتبا، لطائر فيه بيضتان.
قالت أم عباس، إنها لم تكسف خاطر البلبل، الذي كانت تراه يدخل من قمرية الشباك المفتوحة لتغيير هواء الغرفة. تركتها له. يأخذ حريته. تركته يتخذ في شباك الحمام المطل على الكرم، عشا له. يؤنسها في غياب أبو عباس بصوته كل صباح. وكل مساء. وكل ظهيرة. قالت لي : صوت أبو عباس. غناؤه. ترغلته. ما أعذبها. مثل صفير البلبل!
بت ليلتي الأولى، لأول مرة في حياتي في عش البلبل. جعلت ثيابي، في خزانة أبو عباس. وصرت وأنا في سريره، أغني مثله. أصفر مثل صفير البلبل.كان هواء الجبل والوادي، يوافيني بعد منتصف الليل، ناعما من الليطاني. فأخرج إلى المصطبة المطلة عليه. وأنظر في فوهة البئر التي كانت تجمع الماء، من سطح المنزل، وأسمع غناء أبو عباس من عمق البئر. أسمع صفيره الذي أعاره للبلبل الزائر. كنت أتذكر أغنية وديع الصافي: “قديشني صحبة أنا وهالبير”. كنت أستعيدها، كلما تجاوزت السهر، إلى ما بعد منتصف الليل. أفرغ من دروسي الجامعية. ومن دفتر التحضير المدرسي، وأجلس للغناء مثل بلبل أم عباس البديل: “قديشني صحبي أنا وهالبير”.
غرفة صغيرة مربعة، وبجانبها حمام صغير متواضع، وسرير حديدي يضيق عني، ومصطبة عظيمة، فوق تلة مشرفة، ننحدر منها إلى الليطاني، كانت مثل عش البلبل، تؤنس وحدتي في الليالي المقمرة. وكانت أم عباس، ترسل مع عباس، حين تراني قد عدت إلى غرفتي، الصحون والجفنات والأطباق. تعرفت للمرة الثانية على “العطون” من الزيتون الأسود. كنت قد ذقته سابقا في باب التبانة. كنت أدرجه مع النعناع والبصل الأخضر وشرائح البندورة في الرغيف الساخن، الآتي فورا من “فرن النعوشي”. كان لا يزال طعمه اللذيذ في الذاكرة.
كانت أم عباس، تنعش ذاكرتي، بأطباق أمي. كنت حقا إبنها الذي لم تلده. كانت تبعث بعباس، ليطل علي من الشباك. كانت تسهر على نومي. تسهر على أمني. تسهر على صحتي. كان طلبها الوحيد مني، أن لا أزعج البلبل، حين يعود إلى عشه.
تعرفت في مدرسة طيرفلسيه، على المدير. كان شابا رائعا. إصطحبني، منذ اليوم الأول،بعدما وضعت حقيبتي في غرفتي، إلى بيته، فوق نهر الليطاني. رأيت النهر العظيم، يتلوى بين التلال والهضاب. أعجبتني التلال الثلاث الذي كان يتلوى بينها، مثل عروس بين ثلاث عرائس. كنت أجلس قبالته، على البلكونة الصغيرة، قبالة الليطاني. قبالة ذلك المثلث من التلال الذي ينساب فوقها. كان يحدثني. وكنت أحدثه. كان الليطاني يجمع بيننا. كان يسكن وحده في البيت. أما أبوه، فهو يعمل إسكافيا، في برج حمود. دعاني مرة لزيارته. أمضينا سهرة رائعة. نام عند أمه. وذهبت للنوم عند أمي.
كان حديث الأهل بيننا، تقاطع جميل، بيني وبينه، على شرفة الليطاني.
كنت أصطحب تلاميذي، إلى كرم أم عباس. نتحلق تحت شجر الزيتون وشجر التين، وشجيرات العنب. كانوا مثلي، يحبون الدرس في الهواء الطلق. وكان عباس، يوافينا بزجاجات الماء. يوافينا، بحبات الزبيب، وبكبوش شجرة التوت المجاورة.
كان البلبل يستضيفني. نتشارك معه ذلك الفضاء في الغرفة. يظل يصفر، حتى يظن أنني على وشك أن أنام. فيسبقني في النوم، في عشه. وأدخل بعده على مهل، حتى لا يستيقظ علي. أستأذن بئر الأحزان. أترك للمصطبة كرسيها، وأنزل في سريري اغفو على ضوء القمر.
ما عرفت صديقا في حياتي، مثل هذا البلبل الوديع، الذي شاركته غرفته، ولم ينزعج مني. كنت أشعر أني ضيف ثقيل عليه. أسهر معه حتى منتصف الليل. غير أنه، كان يتعالى على جرحه، لأنه كان يراني، ألهو عنه. أتابع دروسي.
حين غادرت، طيرفلسيه، إلى بلدتي التي إنتقلت للتدريس فيها. وقفت على مرطبان الزيتون. تناولت حبة عطون، من كرم أبو عباس. دخلت على البلبل في عشه، أودعه بعد عام من صحبتي. وقفت عليه. جرى الدمع بيننا. تناوبنا في الصفير. كنت أحس قلبي يصفر، مثل صفير البلبل.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين
د.قصي في ذاكرته صور حية ل سعادة”بلدية قروية” عرفها في طيرفلسيه و قبلها قبلها في مشتى حسن. هذه الذاكرة تضفي على ايامنا الحالية بعضا من ألوان الفرح التي يفتقدها حاضرنا الأليم المر.
و نحن كمثل الاستاذ قصي ، نلجأ إلى ذاكرتنا كي نعاود تذكر الفرح و الطيبة، فنجد فيها الكثير الكثير من صور ماض “نحن إليه”. و من هذه الصور، وفي مقدمتها صورة صداقة عرفناها في شخص (قصي الحسين ما غيرو)..
تحياتي د.قصي.