نستعير في ” السبت الثقافي” لهذا الأسبوع مقالة الكاتب أنطوان سلامة التي نشرها في جريدة ” النهار ” اللبنانية ( العدد الصادر اليوم في 28 تشرين اول 2023 ) حول رواية ” شطوب في المرآة ” للكاتبة دلال قنديل والصادرة حديثا عن دار الرافدين في بيروت ..
غلاف رواية ” شطوب في المرآة ” للكاتبة دلال قنديل
هنا مقالة الناقد والكاتب أنطوان سلامة المنشورة في جريدة ” النهار ” اليوم :
كتب أنطوان سلامه:
“شطوب في المرآة “، كتاب دلال قنديل الأول في محاولتها إفراغ ذاكرتها ولا وعيها من صور متشابكة ، في سرد مشحون. تندفع المؤلفة في كتابة قصة طويلة بشخصيات كثيرة تمتلك كل واحدة منها ملامح وخصائص، تتقاطع في السير في اتجاه القدر الأسود، في نطاق جغرافي وقرويّ في “جبل عامل”. تسترجع شريط حوادث قصتها في حبكة متينة ، من ذاكرتها الخاصة، من بيئتها الأولى، فتسلّط الضوء على صراعات تستعر في ثنائيات الديني والمدني، فيلتهب نصّها.
يطفو هذا القصد، بزاويته الحميمة، وبمداه الواسع، على سرديتها التي لا تبالغ ، تُصرّ على العرض الواقعي بلمسات تجميلية، في الأسلوب المندفق، وفي الحبكة القصصية المطواعة في خلق المفاجآت أو الصدمات . تدخل في صلب الموضوع، في تجاذب منطقين يمثلهما الشاب الشيوعي عامر وشيخ القرية، وتبرز “مريم” كبطلة المحور. تتداخل الشخصيات المتنوعة في القصة، يبقى الشيخ خضر والشاب اليساري عامر والحلوة مريم الخط الذي تتصاعد فيه المواجهة، في ظلّ بدايات الحرب الأهلية، بين الديني واليساري، بين التنظيمات الفلسطينية والطائفية والشيوعية والبكاوات…
ومن خلال هذه الصراعات على التسلط والفرض، يبقى للحب رونقه في الفرح الذي لا بدّ أن ينقلب الى فجيعة. الحب في القصة تراجيدي الطابع، فيه الخيانة والإجهاض والمرض الخبيث والموت، فيه التقلبات التي تتزامن مع التغييرات العميقة التي ترصدها الزميلة دلال، في الجنوب اللبناني، في دوائر السلطوية، دينية كانت أم مدنية. ينهمر الصراع ليخلط الخاص بالعام في مسار وجودي من القلق والاضطراب والغليان، وفيه الحزن الجبلي الذي لا تعرفه المدن ولا تملك الوقت الكافي للتأمل فيه. تتوغل سردية دلال قنديل في حالات تاريخية واجتماعية ، تقتنص تفاصيل حياتية وملامح شخصية في الحرب، في تأريخ قصصي للتحولات والتبدلات، فيبدو الانتقال من الحب الى الكره كما انتقلت مريم من حب عامر الى حضن الشيخ خضر، كانتقال الجنوب من سلطة التنظيمات الفلسطينية واليسارية الى سلطة الشيخ مفيد الذي ضمنّته دلال إشارات تترك للقارئ حرية تفكيك ألغازه.
مقالة الكاتب انطوان سلامة المنشورة في النهار اليوم
في التحولات الشخصية تفاجئك دلال دوما بالنهايات غير المتوقعة، تموت مريم، يخون عامر ويتعذّب من أسر التنظيم ، يهاجر… تروي بأصوات عدة تتضارب وتتصادم وتتناقض ما يُعطي أسلوبها القصصي الغنى والكثافة، ويُبعد صوتها الراوي عن الاحتكار، وهذا جوهر الفن القصصي.
تتفرّد دلال ياغي في كسر المحرّمات في اختيار موضوع قصتها، في زمن الأسوار الدينية . لا يعني تفردها انعزالا، أو انسلاخا، أو تحليقا في فضاء لا هوية له، بل تمتص زيوت محيطها لتضيء نصا يشبهها في المرآة المشطوبة. لن يرى القارئ وجهها وحيدا في هذه المرآة، فأبطالها لهم هوية، وكيان، وامتدادات الى القلق، أكان فرديا أو جماعيا، أو ما بينهما من ثقافة استمدتها دلال من محاولات كتابية محلية ووطنية وإقليمية وغربية أيضا، فاكتنز مؤلفها الجديد بالبحث عن المعنى. والبحث عن المعنى هو عمود ما يُعرف ب” الأدب العاملي” الذي يقوم على ” أكتاف رجال الدين… ونسبة الاتجاه الديني (فيه) مرتفعة جدا” كما يشير الدكتور محمد كاظم مكّي في كتابه ” الحركة الفكرية والأدبية في جبل عامل”.
ومع أنّ قصة دلال قنديل تدور في هذا الجبل وإطاره، فهي تتخطى سياجات الدين الى الأعمق اجتماعيا وسياسيا، في حركة التاريخ الحديث وجدليته. تساوي رجل الدين كنموذج قيادي مع البطل المدني المعترض والمشاكس، فتظهر الخصومة بين الاتجاهين المتعاكسين كنزاع، وكمنافسة تتطور الى مشادة، وتلتقي في تشابهات التسلّط ، في ” الميلشياوية” والفساد الذي نتفاجأ بأنّ ” المختار” هو الشخصية الرسمية التي تجسّده. تفرض الخصومة أن تظهر في تباين الشخصيات والقوى المتناحرة، في قصتها الحيّة الدرامية ، فيكوّن التباينُ عقدة القصة ومسارها، وهذا النوع من الأدب لم يعرفه الأدب العاملي الكلاسيكي، بل عرفته آدابٌ أخرى كالتزام أدب أميركا اللاتينية بالواقع الاجتماعي في حركية الاعتراض على ديكتاتوريات السلطة السياسية (ماركيز و”خريف البطريرك”)، والأدب الإيطالي الذي يُعرّي الهوية متأرجحا بين تمجيدها أسطوريا وبين كشف سترها، وهذه سمة الأدب اللبناني بقاطرته المارونية، بين أسطورية سعيد عقل وقبله الشاعر الفرانكوفوني شارل القرم، وبين التغريد خارج السرب، كما جبران خليل جبران في تعريته الصراع الديني والمدني في البيئة الشمالية، وأمين الريحاني الذي اعترف مرة على درج بكركي أنّه من ” القبيلة المارونية” لكنه يعارض الاكليروس. في مسار هذا الأدب، مالت دلال قنديل الى الاسترسال في التعرية من دون أن تمسّ ، من خلال شخصياتها المتنافرة، بالدين كمعتقد وايمان ومقدسات، فكّكت تراكيب السلوكيات والممارسات في سياق النظام أو الانتظام الاجتماعي الثقافي.
رواية ” شطوب في المرآة ” للكاتبة دلال قنديل في جناح دار الرافدين خلال معرض الكتاب في بيروت
تنتمي دلال قنديل الى خط ثقافي برمزه الحياتي-الواقعي، وتشرد الى أبعد من تصنيفها في الخانة الضيقة، هذا على مستوى اختيارها موضوع القصة الجريئة. تتراكم، في أسلوبها، ايقاعات تُهيمن أصلا على كتابات عباس بيضون وشوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين، وشهادات كريم مروة، ومدونات الشيخ الدكتور جعفر مهاجر والسيد هاني فحص ووضاح شرارة وأحمد بيضون وحبيب صادق… الأسلوب العاملي بشحناته، سمة الخصوصية.
ربما من المُبكر تصنيف قصة دلال قنديل “شطوب في المرآة” أو مقارنتها باختمارات كتابية سابقة لأدباء وشعراء آخرين، لكنّ الزميلة دلال تفاجئ، تتجرأ، تخطو خطوتها الأولى، واثقة، على درب الاضطراب والغليان والكآبة الجبلية التي تعطيها نسَبا الى سلالة “عاملية” تتفرّع من شجرة وارفة تمتد جذورها الى بلاد ما بين النهرين بأساطيرها وتاريخ الفجيعة فيها. جديدها أنّها تتفرّد في موضوع تناوله مؤرخون وأهمله الأدباء، وغاصت في ضفافه، أديبات مثل علوية صبح في “مريم الحكايا” التي انطلقت من بيئة جنوبية لتطرح صراع الأنوثة مع البطريركية الذكورية، أو حنان الشيخ في “حكايتي شرح يطول” التي ترفض الهيمنة الذكرية ، أو ليلى بعلبكي في إسقاطها محرمات دينية.
خرقت دلال قنديل هذا المعطى الصراعي في أدب المرأة اللبنانية لتستقر في منصة خاصة بها، وهي التفاعل مع صراع لا يفرّق بين الأجناس بل يضعها متساوية في صراع الدين والدنيا.
جميل أن تقرأ الكتاب الأول لدلال قنديل، تشاهد فيه شريط التحولات الجنوبية باتجاه التسلّط عبر مسالك الحب الذي يهزم حامله مرة قبل أن تهزمه الحرب وصراعاتها الوحشية أكثر من مرة. وكما كتب عباس بيضون: ” رواية دلال قنديل هي رواية بقدر ما هي وثيقة تاريخية”.
صدر لدلال قنديل كتاب “شطوب في المرآة” عن دار الرافدين. علّق على غلافه عباس بيضون وعيسى مخلوف.
الكاتبة الروائية دلال قنديل