سلسلة أماكن عامة:
جرف المدرسة
في السبعينيات من القرن الماضي، ضاقت المدرسة عن حاجاتها. ضاقت المدرسة عن طلابها. صار عدد الطلاب يتعاظم، كلما كانت السنوات تتقادم. بدأ النزاع على البناء. أين تكون أرض المدرسة. ؟ وأما السؤال الثاني: ممن تشتري وزارة التربية. مادامت قد رصدت مالا لشراء الأرض، ومالا لبناء مدرسة حديثة، تفي بحاجاتها، مهما زاد عدد طلابها. مهما تكاثر طلابها عليها.
فجأة جرفت المدرسة القديمة وحملت حجارتها السود، على ظهر شاحنة. سويت المدرسة بالأرض، ذات صيف. طمع الطامعون ببيع الأرض لوزارة التربية. لكنها لم تكن مساحتها كافية. فصرف النظر عنها، بعد جرف المدرسة. جرف حجارتها السوداء. جرف الذكريات. جرف ذاكرة المدرسة.
بدأ الصراع على شراء أرض بديلة، دام ذلك لسنوات وسنوات، مثل جميع الحروب القديمة بين العائلات. فتحت الحرب بين العائلات على شراء أرض للمدرسة. تدخلت جهات خارجية فاعلة. لكن جميع الجهود الخير، لم تستطع أن تطفئ الجنر تحت الرماد. لم تستطع أن تخمد أوار المعركة.
كان لا بد من إستئجار مبان بديلة للمدرسة. وكان لا بد أن تتحضر لإستقبال الإنفجار السكاني الجديد. وكان لا بد أن تتطور، إلى مدرسة متوسطة. وأن تستضيف جميع طلاب المنطقة. كانت مدرسة قريتي، قد صار لها تاريخ عريق. فهي أول مدرسة، قد أسست في ذلك الإقليم من البلاد.
بادرت وزارة التربية، لإستئجار مبان لها. فإستأجرت أعظم العمارات القديمة التي هجرها أهلها. كانت تربض، فوق القرية مثل حصن قديم. كانت ذات مهابة. وكان يشار لها بالبنان من بعيد. وأمامها الساحات والباحات، عن يمينها وعن شمالها. كانت عقارا عظيما بإعتراف سجلات المساحة. يضرب حتى حدود الكروم البعيدة.
عدت إلى قريتي مدرسا، في تشرين الأول من العام1970، بعد الغياب عنها زهاء السبع سنين. و بعد إنتقالي إليها مباشرة من مدرسة طير فلسيه في الجنوب اللبناني. حيث قضيت هناك العام الأول من التدريس. كانت حقا زهرة المدارس في المنطقة كلها. بناء من أعظم المباني كان دارة عظيمة، لرجل عظيم، إسمه أسعد الإبراهيم. كان ذا مال وذا سلطة وذا خلق ودين. كلما ذكر إسمه، تنشف حلوق المتحدثين. دون أن ينتهي الحديث عن الراحل أسعد الإبراهيم.
وخلال سنة أو سنتين، سالت المدرسة بالطلاب من جميع الجهات. صار أهالي المنطقة يرسلون أبناءهم للتعلم فيها. لعظمة البناء. ولحزم وعزم المدير، في نجاح المدرسة. كانت الإدارة نشيطة، تأتي بالأساتذة الأكفاء، مهما كانوا بعيدين. كانوا يأتون للتدريس فيها، من البترون ومن طرابلس ومن الكورة ومن زغرتا ومن عكار. كان الإلتزام بإنجاح المدرسة، وظيف المدير. لا يتوقف عن إنجاح مسيرتها. كانت شغله الشاغل، ليل نهار.
إقتضت الضرورات للبحث عن مبان جديدة. فتم إستئجار أحد المباني البعيدة. لكن عدد الطلاب، كان يزداد بإستمرار. وكان الطلب على المباني يزداد بإستمرار. ولم تعد هناك من المباني، ما يليق بالمدرسة. فعمد المدير لإستئجار المنازيل واليواخير. والبيوت المهجورة. وتشتت المدرسة بين حارات القرية من أقصاها إلى أقصاها. ومن أسفلها إلى أعلاها. وتباعدت الصفوف عن بعضها. صارت بالطبع، بعيدة عن أعين الإدارة. وصارت الحوادث الأمنية تتقدم. وصارت المدرسة تتأخر. وصار الأساتذة يصعب عليهم الوصول إلى المدرسة، خشية تعرضهم للإعتداءات، بعدما غلبت الحوادث بين الناس، وإضطرب حبل الأمن والأمان.
مضى العهد القديم وإنقضى، حين كانت المدرسة تسيل بالناس من كل الجهات. كانت قرى بأكملها، ترسل أبناءها للتعلم عندنا. كادت المدارس المجاورة أن تغلق أبوابها، لأن طلابها، غادروا منها إلى مدرستنا. كانت مدرستنا مثالا للتنوع. يأتيها الطلاب من كل القرى. من كل الجهات. من كل الطوائف. يسألون عن العلم عن التربية عن الوطنية. عن النجاح، في آخر العام المدرسي. وعن النجاح في الشهادة الرسمية.
لكن الحرب، كانت قد عبرت الحدود إلينا. وصارت القرى تتراجع عنا. تستنكف عن إرسال أولادها إلينا. خلت الدروب من التلاميذ في الصباحات الباكرة. وكلما كانت الحرب تتقدم، كانت المدرسة تبادر لإغلاق أبوابها. فقد وفدت الحرب إلى المدرسة قبل الحرب بسنتين. إستضافتها مدرستنا، لعلة وجود المخفر فيها. إحتل الغرباء المخفر. ألغوا بذلك المدرسة. وحين شملت الحرب الأهلية البلاد كلها، شملت مدرستنا فيما شملت، وأغلقت المدرسة أبوابها.
لكن قوة الأجيال كانت هي الأقوى. فما أن وضعت الحرب أوزارها، حتى عادت المدرسة عندنا تتلمس نفسها. تزيل ما علق بها من آثارها. وتداوي الجروح التي أصابتها. وتسعى لتطوير نفسها.
كان البناء الجديد بعد إنتهاء الحرب، على أرض، سبق للوزارة أن إشترتها وسجلتها. فعادت المدرسة إلى البناء الموحد. نزلت من دروب الشتات، وإلتحمت الصفوف وإنعقدت كلها في المبنى الجديد، الذي صار يضم المدرسة المتوسطة كلها.
هجرتني الحرب إلى طرابلس. غادرت مدرسة القرية. وصارت تكبر في غيابي مثل عائلة غاب عنها واحد من أهلها. وعادت الأرض التي جرفت جبانة، ثم جرفت مدرسة، أقول: عادت الارض إلى دائرة الأوقاف. أنشأت فيها بناء من طابقين: واحد للمسجد الجامع، وفوقه، مبنى الثانوية العامة.
أذكر أني شيعت والدي في تشرين الثاني من العام 1995، في الجامع. نظرت إلى مبنى الثانوية التي نهضت فوقه. تذكرت نفسي، وأنا أدخل إلى غرفة الصف في المبنى الذي جرف. تذكرت مدرستي، ذات الحجارة السود. تذكرت كل دموعي التي سقطت من عيوني على أرضها.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين