أماكن خاصة:
“بيت الحمام”
لا أنسى الطفولة وهي تكبر بين الحمام. كنت أستيقظ من نومي، على ضرب أجنحتها فوق مصطبة الدار العريضة. كان المصطبات حول البيت، كل المصطبات، من جميع الجهات، تستيقظ دفعة واحدة. تتحرك فيها النسيمات مع الفجر، بأجنحة الحمام. وهي تخفق فوقها بريشها الناعم، تريد التسابق لإلتقاط الحب. تقف أمي بين المصطبات، تتنقل بينها. تريد توزيع الحب بعدالة على جميع المصطبات، من كيلتها. فأرى كيف تحط الحمامات على كتفيها. أو كيف تقع على ثوبها وقدميها. أو كيف تنقر الحب من كيلتها، ومن كفيها. حتى تكاد تصير إمرأة من حمام.
كنت أوسع لنفسي، درفة الباب، التي تركتها أمي خلفها موروبة، حتى لا تدخل الحمامات إلى البيت. أطل عليها من خلف الدرفة الموروبة، فأرى دنيا الحمام حولها، وكأنها من عاصفة. رفوف من حمام، تغشى المصطبات، من تحت الدار. لا أعرف سرها. أسأل نفسي: من أين يأتي كل هذا الحمام. من أي نبع. كنت أقترب من ثوب أمي. أمسك به. أخشى على نفسي من حمام السلام. أسألها بلطف. أسألها بإلحاح: أين نبع الحمام؟. وكانت ترد علي: من بيت الحمام. وكلما كررت السؤال. كانت تكرر الجواب: من بيت الحمام. كنت لا أصدق، أن للحمام بيتا مثل بيتنا. كنت أسأل نفسي: كيف تتوسد الحمامة مخدتها. كيف تستلقي في سريرها. من يهز لها السرير حتى تنام!.
طيبت أمي من خاطري، حين بكيت على قدميها. هدأتني، قالت: غدا تذهب معي إلى بيت الحمام. نفتح معا بابه. ندخل معا أرضه. نرى معا، كل أسرته. نلمس بأيدينا الزغب والريش. ثم ندعو جميع الحمامات، دعوة الجفلى، إلى الطعام. ندعو الشمس أيضا، لتعلو في السماء على أجنحة الحمام.
إستيقظت باكرا ذاك الصباح. رأيت أمي قد سبقتني، إلى كيس الحبوب. غرفت منه كيلة كبيرة. ثم خرجت على تؤدة. تريد أن لا تستيقظ أحدا. تعلقت بثوبها. علقت يدها بيدي. ثم مشينا الهوينى. كنت أتبعها، مثلما كانت قطتي الغنوج تتبعني، حين أحبو إلى حيث أريد أن أحبو. تبعت أمي إلى بيت الحمام، خارج الدار، في “الحديقة التحتا”. وقفت بكل حنو، بكل هدوء، أمام الباب. حركت مزلاجه. ثم شقت درفة منه. دخل النور إلى جدران تلك الغرفة العظيمة. رأيت لأول مرة، جدرانا من حمام. رأيت لأول مرة، أرضا من حمام. رأيت لأول مرة سقف من حمام. رأيت شبابيكه المغلقة بإحكام، حتى لا تدخل إليه الجرذ، ولا القطط، ولا أصحاب السوابق من الحيات ولا الفئران.
كانت يدا أمي ترقص فرحا، وهي توزع، بين جنبات الغرفة الحب. كنت أرى بعينيها كيف كان ريش الحمام وزغبه وسلحه، يعلق على نسيج ثوبها. على نسيج شعرها. على نسيج مئزرها. ما أجمل أن يكون النسيج من نسج نسل الحمام.
غادرنا معا، أمي وأنا، بيت الحمام. أحكمت إغلاقه جيدا. عادت العتمة تملأ الجدران، لولا بصيص النور من شبكات الكوى الضيقة. سال خلفنا نبع الحمام، إلى جميع المصطبات. كنت أنثر معها الحب، وأقدمه للحمام، حتى يلتقطه من قدامي. كنت أمتلئ سعادة، حين يطير بين يدي الحمام.
كانت رفوف الحمام، تطير من كفي أمي، مثل فرح العطاء. كنت أشاركها فرحتها، وهي تملأ لهن أجران الماء أيضا، في جميع زوايا الدار. في جميع زوايا المصطبات. في جميع زوايا بيت الحمام. وحين تغيب أمي، خلف باب البيت، يخف الحمام سحابات سحابات إلى البساتين والحقول، ورؤوس التلال والجبال. يجري دورات تمرينية، للحمامات الصغار.
كل صباح، يصير بيت الحمام، نبعا مسحورا من حمام. يسيل. يطير. يروح. يجيء. يرف، يرفرف يحمل الشمس على أجنحته، ويعلو بها. ترتفع الغزالة على أجنحته إلى كبد الجوزاء. وينتظرها حتى تغيب خلف التلال، ثم يعود إلى أسرته التي أعدها. يحمل في مناقيره القش، والحب والماء، لأعشاش السلام.
بيت الحمام، كان من الحجر الأبيض، المعشق بالحجر الأسود. كان التعشيق، عند الحمامات، جزءا من ترتيلة الصباح والمساء. كنت أرتقب حلول الظهيرة، حتى أهرب من المدرسة، إلى بيت الحمام، أسترق آخر السمفونيات التي يبدعها، وهو في معزله، عن ضجيج القرى. ما أحلى السويعات، التي كنت أقضيها على بابه. أضع أذني على الخشب المنخور، فأملأ قلبي المنخور بالحب. بالحمام. أستنشق رائحة زغاليل السلام.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين