أماكن عامة/
دار المعلمين والمعلمات
بعد نيل شهادة البروفيه، صرت أبحث عن شهادة أعلى. لا يهمني نوعها، ولا إختصاصها، وإنما ما كان يهمني جدا هو منحتها. كنت أفكر بما سوف يترتب على الأهل من نفقات التعليم خارج البلدة. وخارج البيت العائلي. غير أني كنت مصرا على متابعة الدراسة. ولو على حساب الأهل. كنت مصرا، على نيل الثانوية العامة، أو ما يعادلها. ليتسنى لي بعدها أن أكمل دراستي الجامعية. كانت الدراسة الجامعية، هي هدفي من نيل الشهادات الرسمية.
إستعنت بخالي بطرابلس. كان مدرسا في مهنية طرابلس الرسمية الإعدادية. أرشدني إلى المهنية العليا في بيروت. وإلى إختصاص جديد، هو الشهادة الفندقية المستحدثة. فتوجهت إلى بيروت، وقدمت أوراقي لإمتحان القبول. وكنت أسمع بدار المعلمين بطرابلس. كذلك تقدمت بأوراقي إليها، لإمتحان القبول. وبقي علي، أن أقدم أوراقي لثانوية طرابلس الرسمية. فهرعت إليها، وقدمت أوراقي. خشيت عدم قبول، في الفندقية، وفي دار المعلمين. فأغدو بذلك، غير مسجل للدراسة الثانوية.
كانت النتيجة، أني رفضت في الفندقية. كما رفضت في الثانوية. غير أني قبلت في دار المعلمين بطرابلس. فكان في ذلك ما بلسم جراحي. وطيب خاطري. وأعاد إلي ثقتي بنفسي. فقد قبلت بما أرغب وأشتهي، لأنني سآخذ منحة دراسية تساوي مئة ليرة، طيلة دراستي فيها، لثلاث سنوات. وأتخرج منها، بصفة مدرس، إبتدائي وإعدادي. أتخرج بعد ذلك برتبة مدرس من الفئة الرابعة. وكنت أسمع أن بإمكاني أن أتابع في الوقت عينه، دراسة منهاج الثانوية العامة لأنال الشهادة الثانوية بطلب حر ، أقدمه في السنة الثانية لنيل البكالوريا- القسم الأول. فإذا ما نجحت، أتقدم في السنة الثالثة لنيل شهادة البكالوريا- القسم الثاني. أي شهادة الثانوية العامة، فيصبح بالإمكان أن أتسجل في إحدى الكليات الجامعية.
كان موعد إفتتاح العام الدراسي في دار المعلمين، في شهر تشرين الثاني. فتوفر وزارة المالية شهرا زائدا عن الأشهر الثلاث، في نهاية كل عام. أشهر الصيف. أشهر الصيفية.
نزلت بطرابلس، أول مانزلت، عند أحد الأقرباء في باب التبانة. كان علي أن أذهب ماشيا، من الملولة، إلى أبي سمراء، كل يوم. كانت المسافة التي علي أن أقطعها، زهاء خمس كيلومترات. صممت على الإلتحاق بدار المعلمين، من سكني الجديد في الملولة، بباب التبانة، إلى دار المعلمين في أبي سمراء ولو ماشيا.
تجاوزت عقدة الطريق، حين عرفت بعد أيام، زملاء آخرين، يذهبون كل يوم مشيا من باب التبانة إلى دار المعلمين في أبي سمراء. قرنت جملي بجملهم. وصرنا نمشي معا. نتبادل الأحاديث والنكات. فتقصر بنا الطرقات. ويقصر همها علينا.
كان مبنى دار المعلمين، على بساطته، مدهشا. كان يقع في منطقة الفلل. تحيط به الشوارع من كل الجهات. كانت أمام مدخله، فيلا الدكتور عبس. وهو عبارة عن بيت مبني على الطريقة الفرنسية. تحيط به أشجار الصنوبر والسرو وتتفيأ جوانبه أشجار الزنزلخت. وحوله مبنى جميل من طبقتين. فيه مدرسة السيدة نسب التنوخية الرسمية للبنات. وكذلك مدرسة أخرى، هي مدرس النجاح الرسمية. في مبنى مشابه، ملاصق له. ومحاذ للجانب الشمالي، حيث سور ملعب الدار، الذ يفصله عن ملعب مدرسة السيدة نسب. أما مركز التدريب التربوي الذي إستحدث مع مبنى دار المعلمين، فهو لا يبتعد عنه، إلا مسافة شوط أو شوطين. وقبالته مبنى دار المعلمين للبنات. الذي يقع على زاوية جميلة بين طريقين. وقبالته أيضا، مدرسة الصلاح التكميلية الرسمية للبنات. وفيها فقط، الصفوف التكميلية الأربعة وشعبها العديدة، وهي من أربع طبقات. وهي لذلك، لا تدرس الصفوف الإبتدائية.
كان دار المعلمين بطرابلس في بنائين متجاورين: قسم منه للصبيان. وقسم منه للبنات. وسط مجمعات تربوية. دمها في رقبة أصحاب النفوذ، الذين أهدروها، وجرفوها، وأقاموا فوق أرضها البنايات. وبقي دار المعلمين للصبيان يعاند زمن التحولات. وأما دار المعلمين للبنات، فصار مركزا أمنيا. تطلبته الحياة الجديدة، بعد التحولات التي جرت في طرابلس وأبي سمراء. وتحول المنطقة المصنفة “منطقة الفلل”، إلى مبان تجارية. كنت قد أحصيت في أبي سمرا، أكثر من ستين فيلا. ملأى بالحدائق وبالأشجار. تراجعت البلدية عن تصنيفا، وجرفت الفلل وبيعت لتجار البناء من الفئة الخامسة.
كان التلاميذ في دار المعلمين، يتجمعون على أرض الملعب، منذ السابعة صباحا. يبدأون في الوصول إليه، مشاة وبالسيارات. من زغرتا والقلمون. ومن الكورة. ومن الضنية. ومن الميناء. ومن المنية. ومن عكار. ومن الترون وشكا. سكنت سنة بكاملها عند عمتي بشكا. كنت أدرس على الطريق الترابية حيث أحافير الأرجيل، على ضوء البلدية. كان دار المعلمين والمعلمات، معهدا للرجولة، و مصهرا حقيقيا للوحدة الوطنية.
كان المبنى مؤلفا من ثلاث طبقات. في كل طابق ثلاث غرف. بالإضافة إلى الطابق السفلي، حيث الإدارة والنظارة والمكتبات. وأمامه الملعب، ارض الذكريات الجميلة الذ يطلب على ملعب بنات مدرسة الست النسب التنوخية.
كانت إدارة دار المعلمين موحدة، للصبيان وللبنات. وكانت الإمتحانات تجري مختلطة. وكنا نتعرف إلى الزميلات من بنات الدار، في النشاطات الطلابيةالمشتركة. أو في الإمتحانات الرسمية المشتركة، أو في فرق الدراسة لتحصيل الثانوية العامة. أو في الدكاكين المجاورة. أو في الشوارع المحيطة. أو تحت أشجار الزيتون المحيطة. وربما كنا نرتب بعض المشاوير إلى الزيتون البعيد، والذي كان يمتد خلف الدار مثل البحر، حتى السكة البيضا التي شقها الفرنسيون كطريق عسكرية إلى الكورة، ورصفوها بالحجارة البيضاء، وغادروا قبل أن يعبدوها. كان زيتون طرابلس يصل إلى ما خلفها. إلى جنائن الليمون على النهر قبالة جسر القناطر والمرجة المغروسة بالليمون.
كنا نمر من أمام القلعة، ونأخذ طريق الشلفة المطلة على نهر أبو علي. ونملأ أنظارنا وأكبادنا بعطر الليمون والزيتون ونسيمات الوادي، و أنسام البحر.
كان موقف سيارة الأجرة التي تقلنا إلى أبي سمراء على التل. قبالة مقهى فهيم. وكان السرفيس في الصعود، بثلاث فرنكات. وأما النزول فكان بفرنكين إثنين. وكان الطلاب في دار المعلمين يسمح لهم بالخروج عند الظهيرة للغداء لساعة ونصف. فكنا نهرع لأخذ كاسة اللبن مع رغيف الخبز بربع ليرة. ولأخذ الموزة الواحدة مع رغيف الخبز ورشة السكر بثلاث فرنكات. نثرثر هناك مع بعضنا طويلا. كانت الدكان مجمع الثرثرات مع البنات.
وكان أساتذة الدار، كذلك، يأتون من جميع الأقانيم والأقاليم. فكان طلاب الدار يتعرفون على لبنان من خلالهم. يتعرفون على مجموعة من الأساتذة الأنقياء. إنصرفوا بعلمهم الواسع، ليربوا جيلا من المربين الشباب.
كنا نتعلم الدروس العربية والفرنسية في السنة الأولى. وكنا نتعلم الدروس المشابهة لصف البكالوريا – القسم الأول. وكان البرنامج يتسع لدروس علم الإجتماع. ولدروس العلوم الزراعية والعلوم البيطرية. كنا نسأل الأستاذ معنى هذة الدروس لنا، فيأتينا الجواب: أنتم مربون في القرى، سوف يحتاج الأهالي إليكم، لحل بعض المشكلات الزراعية والطبية والبرة والإجتماعية والنفسية. فكانت الخسة تكبر في رأسنا. فنحس بالعظمة تكبر معنا وتبلغ فينا سن العطاء وسن الشباب.
كانت الدروس الرياضية قاسية علينا. وكان منا من يرسب فيها. وكانت دروس التدريب العسكري، قاسية أكثر. كانت لها مخيماتها الصيفية. وكانت دروس الرسم، تعلمنا كيف نحضر الرسوم للاولاد. وكانت دروس الموسيقى، على أعظم ماتكون. نتعلمها على يد الأخوان فليفل، ياتون لتدريسنا من بيروت. كانت ساعة البيانو، من أهم الدروس عندنا. نرسم أبجديتها على كرتونة كبيرة، ونتحضر للضرب عليها، قبل الضرب أمام الأستاذ محمد فليفل على أصابع البيانو الناصعة.
كانت الإمتحانات في دار المعلمين شديدة. وكنا لا نستطيع الإستهتار بها، لأننا نخشى أن نخسر المنحة الدراسية.
تعرضت لهذة التجربة. خسرت منحتي لسنة،لرسوبي بالعلامة اللاغية في الأدب الفرنسي، في الدورتين، رغم أني كنت الثاني في مجموع العلامات التي نلتها. عوضتني جدتي، أم أبي، عنها: أربع ليرات ذهبية، إثنتان حميديتان. وإثنتان مجيديتان. فأك عدت صفي. ودرست البكالوريا- القسم الاول، وعوضت خسارتي، ونجحت في شهادة الدار وفي الشهادة الثانوية، في الدورة الأولى.
تعلمت من الرسوب كيف أنجح. صار النجاح منذ ذلك الحين في يدي. ترك بصماته علي في الدراسة الجامعية.
شهدت لدار المعلمين، أنه كان معهدا تربويا لي، قبل أن يكون لأبناء جيلي. سكنت قبالته لسنتين.فكانت من أغنى سنوات حياتي كلها. إنصرفت فيها، للدراسة بكل شجوني. كنت أرسل لأهلي من المنحة ثلثيها، وأعيش في أبي سمراء بثلثها، مع أجرة الغرفة التي تشاطرت السكن فيها، مع زميلي. كنت ادفع عشرين ليرة من الأربعين ليرة المتبقية، اجرة غرفة. وأنفق عشرين ليرة على عيشي. كانت حياتي، منذ ذلك الوقت كلها كريمة علي.
وحين تخرجت من دار المعلمين، بشهادتين: عينت في الجنوب ، في مدرسة طيرفلسيه، وتسجلت في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية. وبعد هذة السنة اليتيمة في الجنوب، درست في قريتي، في المدرسة التي حبوت فيها لخمس سنوات. ثم غادرتها إلى طرابلس من جديد. أدرس في الجامعة، وأسكن في أبي سمراء، وأدرس في مدرسة الصلاح التكميلية، قبالة دار المعلمين. فصار مدير الدار :الراحل نزيه كبارة، زميلي. هو يدخل إلى الدار من بوابة الأساتذة، وأما أنا فأدخل إلى مدرسة الصلاح التكميلية الرسمية، من البوابة المقابلة. ثم نذهبا معا للتدريس في الجامعة.
كان دار المعلمين، مركزا ثقافيا بإمتياز. كان زملائي وأنا نصدر كل عام مجلة الدار السنوية. تعلمنا فن تحرير المقالة في الدار باكرا. تعلمنا النزول إلى المطبعة. تعلمنا، صف الملزمة. تعلمنا تشغيل الأنترتيب. وكذلك أعمال التصحيح والتصويب، في نسخ الملزمة. وطباعة الأوزاليت. وإعداد الغلاف، وترتيب الصفحات،وقوائم الأسماء والموضوعات. وفن كتابة المقدمة.
كنانسهر حتى منتصف الليل في مطبعة الإنشاء في ساحة الكورة بطرابلس. كان صاحبها الأستاذ مايز أدهمي، أخا أكبر لنا. وكانت منحة الطلاب تنقص ليرة واحدة دعما، لصندوق الهيئة الثقافية، وضمنها أسرة تحرير المجلة. كانت رائحة الحبر المطبعة أخاذة.
كنا في الدار نقوم بالنشاطات الثقافية المتنوعة. ندعوا الشعراء والأدباء الكبار، للأماسي وللمحاضرات. أذكر أني دعوت الشاعر الكبير بلند الحيدري وكذلك الشاعر الراحل جورج غانم. كانت الرابطة الثقافية بطرابلس، تقدم للدار مسرحها. كنا هناك نلتقي زملاء وزميلات، على أرض محايدة.
كنا ننزل إلى التل، في الليل وفي النهار بصحبة الأستاذ أحمد الدن. والاستاذ رياض بيضون، لحضور فيلم سينمائي تربوي أو إجتماعي. أو سياسي. أو بيئي. ثم نناقشه في الصالة معا. وكانت العلامات تؤخذ هناك على ضوء النجاح في المشاركة.
كان أساتذة الدار يريدون ترشيح جميع طلاب السنة الثانية والسنة الثالثة لشهادة البكالوريا. كانو يقدمون لنا دعما ثقافيا، بدروس أضافية. وكان أكثرنا، يتخرج بثلاث شهادات: الباكلوريا القسم الأول وشهادة دار المعلمين، والبكالوريا القسم الثاني. كان الدار يفخر أنه مصهر الثقافة، وأن طلابه معدن العلم. وأن أساتذته، من الصحابة. تطوعوا لطلابهم. وتفانوا لإنجاحهم. وكانوا إذا ما إلتقوا بهم، يفتخرون أنهم كانوا أساتذتهم.
حقا كان دار المعلمين والمعلمات بطرابلس، في أبي سمراء، في السبعينيات من القرن الماضي، علامة مميزة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.