متحف الذكريات
قلما يشهد كتاب على صاحبه. قلما يبرز وجهه الحقيقي. قلما يشهد الكتاب على عذوبة من دبجه ورتبه وإعتنى به. قلما يشهد الكتاب على نفس المؤلف، على روحه المرحة. على سكينته وهدوئه وصفاء عقله وقلبه. قلما يشهد كتاب على بصمة العين. على التعب. على السهر. على السفر. قلما يشهد كتاب على حياة كاملة من ألفها إلى يائها. على مدينة. على وطن. على حقبة. على عصر. عدنان حسن قباني، ليس كاتبا. وليس له أدنى صلة بحرفة الكتابة. أما كتابه: “رحلة في ذاكرتي. طبعة خاصة: 302 ص. تقريبا”، فهو قد أوجز له كل ذلك وأكثر. وقف على تلك الدقائق والتفاصيل من حياته. كتاب يأتي ليتوج حياة صاحبه. ليمنحه براءة التأليف في كل شيء، حتى العمل الكتابي. هو سيرة حياة. أم إضبارة نجاح وخيبة، أم شجرة عمر، أزعم أنه يشتمل على كل شيء من ذلك. كتاب “رحلة في ذاكرتي” ، لعدنان حسن قباني، يعلمنا معا: لذة القراءة والكتابة. يجعل منه متحفا للذكريات.
غلاف كتاب عدنان قباني
على غلاف الكتاب ما يبوح بهذا الكتاب. ما يشي به: ” كتاب شيق يأخذك في رحلة عبر السنين. يصور لك كيف كان لبنان في القرن العشرين…”. يحكي عن مشاهدات صاحبه في سفره الطويل. وفي البلدان الكثيرة، بسلاسة وبساطة. وهو إلى ذلك يزدان بالصور القيمة، لبيروت وشوارعها. كما لغيرها من المدن والعواصم التي زارها.
يقع الكتاب في ثمانية أقسام ومقدمة. يتحدث في القسم الأول:
1- عن طفولته التي عاشها. في بيروت وعن العادات والتقاليد. وعن الأيام والمواسم. وعن الفنون والعلوم، التي كانت سائدة في الثلاينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
2- ينتقل المؤلف بعد ذلك للحديث عن صنوبر بيروت وعن حرش العيد. وعن محلة الأوزاعي. وعن نهر بيروت. مرورا بأربعة أيوب وحبس الرمل وملعب بيروت البلدي. وذكرياته عن المفوض السامي الفرنسي. ومصلحة الميرة وزراعة الأرز ومؤتمر اليونيسكو ومطار بئر حسن، قبل مطار الشويفات. وعن مرفأ بيروت، بالإضافة إلى حديثه المفصل عن بناء جامعة بيروت العربية.
3- يتحدث أيضا عن أسفاره الكثيرة. وعن عودته من مدينة الموصل إلى بيروت في العام 1956. يذكر تفاصيل العودة الشجية بروح عذبة. يتحدث عن واقعة الحريق، وعن الثروة التي جناها. وعن المعتقدات التي كانت تنتشر في زمانه. يتحدث أيضا عن شبابه. وعن حبه الأول وعن سفره الدائم، بين العواصم والمدن. يحكي لنا قصة تهريب الذهب عبر القطب الشمالي. متوقفا عند سنغافورة وأفغانستان وبانكوك وكلكوتا وكوريا ومانيلا ونيودلهي. يتحدث كثيرا عن أسفاره. يستغرق في التفاصيل. يتحدث وكأنه برتبة سفير.
4- يتذكر الأستاذ عدنان، لقاءاته العذبة، مع الأعلام والشخصيات البيروتية التي تعرف إليها. وغيرها العربية أيضا مثل: الشيخ جلال الدين البخاري. والشيخ محمد عمر الداعوق والشيخ صالح عبد العزيز الراجحي والدكتور جبرائيل جبور والشيخ عبدالله الحمصي.
5- في الكتاب أيضا، روايات وأخبار لا تخلو من العذوبة في سردها، مثل شلة كول وشكور. والمقالب التي يتذكرها: مقلب ضهور العبادية ومقلب رأس السنة. ومقلب آخر عذب، أسماه “مقلب غير شكل”.
6- وينتهي الكتاب إلى ذكريات الكاتب عن بيروت في أربعينيات القرن العشرين. وعما ذكره أيضا من الذكريات القديمة. وتحدث أيضا عما أسماه “فيسبوك… أيام زمان”. وكذلك عن بيروت في الذاكرة. وقدم في الأخير ختام الذكريات، مذيلا ذلك بسيرته الذاتية. وبثبت معتدل للمصادر والمراجع التي إستعان بها.
الأستاذ عدنان حسن قباني، هو من مواليد بيروت – 1932. يهدي كتابه، لأبنائه وأحفاده. ولوالديه وزوجته. كما يقدم الشكر للدكتورة هدى رفيق سنو، على جهدها الذي بذلته في تصحيح الكتاب وإخراجه، حتى صدوره في أبهى حلة. يقول في مبتدأ مقدمته:
” لكل إنسان ذاكرة. والذاكرة هي أشبه ما تكون بغرفة محفوظات يعود إليها صاحبها عند الحاجة. والمذكرات هي ما يدونه الإنسان مما لا يزال عالقا في ذهنه. أو مستعينا بما أودعه في أرشيفه في الماضي من حوادث حصلت معه خلال مراحل حياته. وأنا أحاول الآن، وقد أصبحت على أبواب الثمانينات من عمري، أن أستفيد من هذا الأرشيف، بعد أن أنفض عنه الغبار الذي تراكم بفعل الزمن.” يتذكر حادثة نفق نهر الكلب، بألم كبير، يقول: كدت أموت العام 1999، حين إصطدمت سيارتي بالحائط الفاصل بين مسربي نهر الكلب، بسبب ما كنت أتناوله من الحبات المهدئة، التي جلبت لي النعاس الشديد. ويتذكر صديقه بيار كرامة وزوجته هدى سكاف، اللذين قدما الضمانات المالية لمستشفى سيدة لبنان. وهو يختم بهذة الذكريات المؤثرة في حياته… أطال الله بعمره صديقا لشارع الحمرا، الذي عمل فيه لمدة ثلاثين عاما، موظفا لدى مؤسسة مصرفية كبيرة. ومالك محل صرافة على حسابه، لأكثر من خمس وعشرين عاما.
كتاب الأستاذ عدنان حسن قباني: رحلة في ذاكرتي، هو في حقيقته، صياغة دقيقة وواقعية. هو حقا متحف للذاكرة النبيلة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين