نشر الشاعر عبد الغني طليس قصيدة مؤثرة في ذكرى انفجار مرفأ بيروت على صفحات جريدة ” اللواء ” الثقافي في بيروت ( عدد 4 آب 2023 ) تحت عنوان ” أنا بيروت ” ..وقال فيها :
” أنا بيروت “
تقولُ المدينةُ
إنّ لديها مِنَ الناسِ
مَنْ تَشربُ الكأسَ مِنْ يَدِهِم بسلامٍ عميقْ
ومَنْ تَلْفظُ النفسُ أسماءَهُم كغُبارِ الحريقْ.
فيَا ساقِيَيَّ
أخَمراً تريدان أن تَسكُبا ليْ
أمِ العلْقمَ البَربَريّ بوَجهٍ أنيقْ؟
تقولُ المدينةُ عن ساكنيها
خليّةَ نَحْلٍ
وثورةَ ضَوءٍ
وأوجارَ أعتى الثعالبِ
والطغمةَ المستقِرّةَ
والطيّبينَ
فريقاً يُكرّر مَوعِظةً في الوصَايا
ويحفرُ مِنْ خلفِه في الخَفاءِ فريقْ
و«يُوجَدُ»…
مَنْ يقرأونَ ولا يفهمونَ
ومَنْ يكتبونَ ولا يعرفونَ
ومَنْ يَعتَلونَ المنابرَ
كي يزرعوا حجَراً في خواطرِ أبنائهِمْ
يَشهدونَ
بأنّ الحياةَ تكونُ بسرْقةِ
ما تستطيعُ إليهِ يدٌ
أو تراهُ عيونٌ تُفتّشُ بين النوادي
عنْ الفخرِ أو عنْ بَريقْ
تقولُ .. ومِنْ قلبها
كم أُحبُّ الذين
إذا ما مَشَوا فوق أرضي
سمِعتُ تراتيلَ أفكارهِمْ تَحتوي قلَقي
وترانيمَ أرواحهِمْ تقتفي أَثَري
ومقاماتِ أصواتهِمْ تتغنّى معي
يَشكرونَ رحابةَ روحي ودفءَ سَرابي
فأجْمعُهُمْ بالذينَ حفرتُ بذاكرتي
صُوَراً لهُمُ من زمانٍ عتيقْ
وثمّةَ مَنْ يَطمَعونَ ببسمةِ حبّي
فيَستَنبِطُونَ سكاكينَهُم
كرُعاعٍ،
ويَسطُونَ جَهراً على حُرْمَتي
ويسُبُّونَ أصْلي وفَصْلي
ومِنْ ذَهَبي يغرفونَ
ومَنْ قوّتي يَتْخَمونَ
ومَنْ فرَحي يَسلبونَ
وعند الحسَابِ يبيعونني
كعشيقةِ تَخْتٍ… رَماها عشيقْ
تقولُ المدينةُ
قرّرتُ يوماً زيارةَ مقهى
لأعرف
ماذا يقولُ ملائكةٌ وشياطينُ عني
تقمّصتُ روحاً
فليس يراني سوى الأنقياءِ،
جلَستُ.. نَظَرتُ.. سمِعتُ..
نساءً بعُمْرٍ تأخّرَ ستين عاماً
لِيَثبُتَ عند غوايات عِشرينَ تفّاحةٍ
ورجالاً يحبون
أن يُصبحوا زُعماءَ بأفكار قيسِ المُلوَّح،
أمضيتُ وقتاً عنيفاً
وحين رجعتُ إلى حالتي
فاضَ دمعي دماً،
وتكسّرَ صمتي نشيجاً كتوماً
ومِلْتُ إلى
فكرة السّفَرِ الموسميّةِ عندي
جواباً عن الغدرِ في ما سمعْتُ…
ومنهُ النّعيقْ
تَقدّمَ مني كِتَابٌ ومِحْبرَةٌ
ودفاترُ وَجْدٍ
وذاكَ الصنوبرُ والشاطىءُ الملَكيُّ
وأولئكَ العابرون
على رمش عيني
وقالوا كَتَبناكِ فوقَ الهواءِ
وبَعدَ السماءِ
وصُغناكِ خبزاً وماءً
ولن تسكُني قفَصاً في مَضِيقْ
تقولُ…
وفي معشَرِ الشُّعراءِ
انتباهٌ إلى كلّ شيءٍ
وحَدْبٌ
وعينٌ إلى الشمسِ تَرنو
لتبدو قصائدَهُم بالذكاء الجميل
ولكنّهمْ غافلونَ
يَطيرونَ يوماً…
ويوماً يَحُلُّ التَّعَثّرُ في الكلمات
التي يكتبونَ على حائطي
وأُصَدِّقُهُم رغمَ أني أرى أُحجيَاتٍ
وقد دخلوها ولم يخرجوا
ويهيمونَ فيها
كمَنْ حَسِبَ النجمَ يسرحُ في جَيبِهِ
وهْوَ خاوٍ…
أُصَدِّقُهُمْ
في الحنانِ الذي شَفّ واحدَهُم
فتَجَلّى وبَانَ لهُ القدَرُ المُرُّ
شجْرةَ تينٍ
وعصفورةً،
وأُصَدِّقُهُمْ كاذبينَ
كَمَن في المَنامِ رَمَى بِرْكةَ المُتَوَكِّلِ
عشْرَ قصائد مَدحاً
فجاءتهُ تسعى الدنانيرُ سَعيَاً…
وخوفَ انكشافِ العَطِيّةِ
خَبّأها عن عيونِ الحواسدِ
ثمّ ادّعى أنه في الديونِ غَريق!
تقولُ المدينةُ
إني تعِبتُ من المال
أُخرجُه مِنْ تُرابي وأُعطيكُمُ
وتظلُّونَ في رغبةٍ لمَزيدٍ
ألَا تشبعونَ؟
وأزياءَ أُلْبِسُكُمْ
تطلبونَ المَزيدَ
كأنّ غداً سيُعرَّى الجميعُ؟
وأُطعِمُكُمْ
فَتُصِرّون أن تأكلوا
عَسلاً عسَلاً
أتريدونَ أنْ تُقتَلوا بالطعامِ؟
وهل تأمَلون
بأنْ تَخرجوا من منازلِكُمْ
صارخينَ سُدىً أينَ ضاعَ الطريقْ!
تقولُ المدينةُ
لو عُدتُ خمسين عاماً
لما كان منكمْ هنا أحَدٌ
إنّها الحرب جاءت بكُمْ
إنّها عشراتُ الحروب التي خرَّبَتني
ولم تَيأسوا
ألفُ تَبٍّ لِمَنْ لا يعانقُني في الصباحِ
وعندَ المساءِ
ولا يتألّمُ حينَ أُصابُ بأيّ صُداعٍ
وأيّ جِراحٍ
ولا يتهيّبُ أن يتشَفّى بمَوتي
لإنّ حياتي ستأتي مُكلِّلَةً نفْسَها
فاعلَموا أنني
كنتُ بيروتَ
ما زلتُ بيروت
بيروتُ فاتحةُ القلبِ باباً فبَاباً
ولكنّني في ظنوني
أنامُ… وأحذَرُ أنْ أستفيقْ..
تقولُ المدينةُ
حين أتَت سُفُنُ الفاتحين
وخَرّوا سجوداً لآلهةٍ في الجَمالِ
تراءت لهُمْ
في بيَاضي وسُمرَةِ وجهي
تنادَوا لكي يعبُدوني..
وكلّ الذين أتَوا بعدهُمْ
فعَلوا فِعْلَهُمْ
فوضَعْتُ على جَبْهتي ما يلي :
لا يساكنُني خائنٌ
لا يصاحبُني ناكرٌ لجميلِ القلوبِ
ولستُ أُطيقُ ضِعافَاً بوجدانِهِمْ
لا أُلَامِسُ إلّا حَبيبي
فمن كان منكم حَبيبي
جعَلْتُ لهُ قامتي كالظلالِ
وأعطيتُهُ عنُقي ليُقَبّلَهُ
ويُصَفّي نواياه من شُبهةِ المارقينَ
فهَيّا إليّ
بكُم سوف أبني
بكُم سأُغني وأرقصُ طولَ الزمانِ
بكُم سوفَ أُنهي عهودَ الرقيقْ
ولن أتراجعَ عن سَلّ سَيفي
إذا حَدَجَتْني عيونُ رذيلٍ غَرورٍ
ولن أتوقّفَ عن حَمْلِ أثمارِ حُبي
وإنْ كان بيني وبينَ حَبيبي جبالٌ
ولن أتفرّقَ بين القبائل
بل سأُؤدي فروضَ الثباتِ ليَتّبِعوني…
ولن أتخيّلَ
إلّا المجانين في صُحبتي وشُرودي
ولن أتوسّلَ من قاتِلِيَّ أماناً
لأني سأقتلُهُم بالمحبةِ فوراً..
ولن أتمَسْكَنَ كي يتمكّنَ
مَن يتربّصُ بي بالشُّرورِ
أكانَ قويّاً يخاتِلُني
أو مريضاً تداوَى ليصبحَ ضَبْعاً
ولن أترجّى حِيادي
فإني رَبِيتُ على أن أقودَ الجيوشَ
إلى بيتِ طاعتهِمْ ليْ
ولن أتخلّى عن الفَنّ يملأني
بسَماحةِ شعبٍ
على الأرْزِ نامَ
وبالشِّعرِ قامَ
وبالنّغَمِ البِكْرِ صلّى وصامَ
وسامحَ بالعنفوانِ الطليقْ
هنا موجُ بيروتَ
حرَّرَ نصفَ المدينةِ
لاقاهُ سرْبُ طيورٍ
لتحريرِها كلّها من رؤوسٍ
تناطحُ أشبَاحها في الجحيمِ،
هنا صوتُ بيروتَ
قالَ كلاماً يشُقُّ الفضاء
لتنزلَ جوهرةٌ خبّأَتْها عجائزُ
بين الغيومِ
هنا ليلُ بيروتَ
عُوْدٌ تفلّتَ من عازفيهِ
ورِقٌّ تمرّدَ جَهْراً على حابِسيهِ
وسهرةُ أصفى النّدامَى
غفَتْ بعد موّالِ شوقٍ رقيقْ
أنا روحُ بيروتَ
فيكُم صنَعْتُ لصهيونَ نُصْبَ الهزيمةِ
فيكُم رسمتُ على كلّ صَيفٍ
وكلّ خريفٍ.. شتاءٍ.. ربيعٍ لأولادِكُم
مهرجانَ القراءة في حَبَلِ الأرض…
فيكُمْ صنَعْتُ منَ المبدعينَ
أبالِسةً مُبدعينَ
يشُمُّونَ فِيَّ هواءً
إذا بدّلوهُ أُصيبوا بعُقْمٍ،
صنَعْتُ من الحَرْفِ
مَركَبةً لفضاءٍ وكَوْنٍ عَصِيّانِ
فاحْتَرَمَا ما صنَعْتُ
وسارَ الكلامُ بأوردَةِ الشّرقِ
عِطراً تَلألَأَ في مكتَباتي
… وأفسدتُموني
أنا روحُ بيروتَ
لا تَحسَبوا أنكُم إخوَتي
أو بَنُو جِلْدتي
فوَاللهِ ما خَيَّبَتْني الليالي بأسرارِها
والنهاراتِ ما كسَرتْ شَوكتي
إنّما خَيَّبَتْني نوايايَ فيكُمْ…
فواللّهِ ما وقَعَت حُجّتي في الغُلُوِّ
ولكنْ وقَعتُمْ
ولم تفهموا مِنْ أنيني
سوى طلَقاتِ الرصاصِ ابتهاجاً
ظلَمتُمْ فصِرتُمْ أَسارى
وخلف الشماتةِ رُحْتُمْ طويلاً…
ولكن
ْ
أنا روحُ بيروتَ
أبحثُ فيكُمْ
وأعرف أنّ اتّكالي عليكمْ
سيُغرقُني في السؤالِ المؤرِّقِ:
أينَ العدُوُّ… وأينَ الشقيقْ؟
تفكّرُ بيروتُ في نفسِها اليوم
تُصغي
تُحِيكُ جناحينِ
مِنْ سَكَراتِ البِحَار..
تُفكّرُ في أهلها
وتُغسّلُ أقدامَهم بنداءِ الأمومَة
في الطرقاتِ
تُفكّرُ
في الآخرينَ الذين بَقَوا آخَرينَ
وساروا بها في جنازةِ عُرسٍ
وتسألُ: هل مِنْ صديقْ؟
تقولُ المدينةُ
حينَ توسّعَ هذا النداءُ
لمحتُ على طرَف الشمسِ
كُسْراً يُعادُ إليها
وجَمْعاً من البَشرِ
انْتَشروا حَولَها آمنينَ
وطفلاً جَنيناً
رمَى صرَخاتِ البدايةِ
فاهتَزّتِ الأرضُ
تُعطيهِ مِنْ رحْمِها ما يليقُ بهِ
… والحياةُ تَليقْ.