أمواج سمر ( الجزء التاسع)
أمي! وما أعذبها كلمة يعتّقها الزمان خمرة مقدّسة ملؤها الرجاء.
أمي! وأطلقها صرخة من أعماق القلب.
كيف يمرّ العيد ولا أراك يا قديسة محتجبة؟
أجراس الموج في حنيني التائه تناديك. غيابك قد طال يا جميلة، يا وردة خميلة، في جنّة أو بركان.
قبل سنواتٍ لا أجيد عدّها رحلْتِ، بلا وداع. لم أرك أيتها الغالية إلا في الأحلام.
رأيتكِ في الورود المتفتّحة الأكمام.
رأيتكِ في ابتسامات الغمام.
رأيتك تنحنين على سريري البارد كقلبي عند المساء. كان الصقيع عميقاً، تلك الليلة النيسانيّة على غير العادة. كان الطقس جليدا بلا مطر. والمطر في الداخل، في مآقي الحاضرين، بعد سبع ساعات من الولادة.
يا الله! لماذا فرّقت بين الكرمة والأغصان؟ كيف يستمد الغصن المقطوع نسغ الحياة، وقد انسلخ عن أمه مرتين؟
أيكون ليل ونهار، في لحظة واحدة؟
كيف يلتقي الموت والحياة؟
كيف تفقد السمكة بحرها ولا يرفّ لبوسيدون جفن؟
هل كنتُ قادرة على افتدائها بروحي؟
كيف تُقتلَع العريشة الدهريّة من التراب، ويزرع الغصن الوليد في آنية زجاجيّة السهاد؟
وأفرخ الغصن، ولم يمت. ما أقساك يا قدراً بلا هوية!
سبعة أيام طال بقائي في بطن حوت يونان.
ولفظني الحوت إلى رحم دموع ودماء. سلّمني الأب المفجوع إلى امرأة وقال لي في سرّه: هذه أمّك الجديدة.
أيكون لي أمّان وليس لي أمّ؟
أمي الجديدة عرفتها بقلبي قبل أن تفقه العينان. أرضعتني الكآبة لا الحليب. كانت أمّا فقدت طفلها، بعد سبعة أيام من ولادته.
ما أقساك أيها القدر تلهو بنا كما تشاء، وحيث لا نشاء!
وتمضي بنا الأشياء.
أرضعتني الحياةُ حليب الموت. ولكني لم أمت. قدري أن أبقى حية ترزق، في بستان الأحزان.
وبعد سبعة أشهر انطفأ رحمي البديل. رحلت الرحم البديل إلى لقاء وحيدها الساكن سعيداً في جنّة الله. فانتقلتُ إلى رحم جدّتي لأمي.
أيها الرقم سبعة ما أقساك! ألم تكتفِ من عذابات ضحاياك؟ حرمتني أمين في وقت قصير. أصبت باليتم مرة ثانية كأنّ السعادة محرّمة عليّ.
كانت جدّتي أمّا لي بكل ما للكلمة من معنى. أول كلمة قلتها :تاما”. وهي كلمة لن تجدها أيها القارئ إلا في قاموس فتاة لم تبلغ سنتها الأولى. كلمة نحتها عقلها الباطنيّ من كلمتي تاتا وماما، أي الجدة الأم لحفيدتها.
كانت تاما شعلة متأججة من المحبّة. كأنها أفرغت توقها إلى ابنتها المتوفاة، في غصن مقطوع من الدالية التي اقتلعتها الرياح الهوجاء. لم أرها حزينة يوماً، ولكني كنت في قرارة نفسي أعرف أنها جبل من الكآبة، أو بحر من الأحزان، ليس له قرار، ولا تُسبر له أغوار. كان إيمانُ تاما أكبر من حبّة الخردل، فنقلت جبل الكآبة إلى وراء جبل قاف، وأبحرت بعقلي الطفوليّ في بحر أحزانها، عبر الأمثال والحكايات.
كانت حكايات جدتي بمعظمها عن الجنيّات. وكنت أتخيّل الجنيات كالفراشات، ولكن أكبر حجما، كي يتسنّى لها أن تحمل هواماتي إلى غرفة سرية، في دهليز لا وعيي المفرط؟
ومرّت السنوات… عقاربها حيّات وأموات، إلى أن بلغتُ من العمر سبع سنوات تعادل زمناً افتراضيّا كنتُ فيه أسيرةَ الهيولى، في بيدر من رمال.
وإلى اللقاء…
سمر ي. الخوري
سمر خوري بإلهاما
خلقت للشعر هدية
وحدتي تاتا و ماما
بكلمة تاماالشعرية