“فقط أمي “
قصة سردية للكاتبة والشاعرة دارين حوماني
( نقلا عن موقع ضفة ثانية في مجلة العربي الجديد )
-×-×-×-×-
من تكونين؟
أنا ابنة الطيب القاسم
من هو الطيب القاسم؟
عمي هو الأخضر القاسم
حقًا! نعرفه جيدًا… من لا يعرف الأخضر القاسم!
كانت هذه الأسئلة من ضمن الحوار المعتاد معي كلما قصدنا قريتنا الجنوبية الحدودية قادمين من بيروت، أمي وإخوتي الثلاثة وأنا.
عمي هو الأخضر القاسم. وليس لأبي إخوة غيره، تقول أمي إنه كان لأبي ثلاثة إخوة قبل ولادته، ماتوا بسبب “صيبة العين”، كانت عيونهم زرقاء وواسعة ورموشهم طويلة وخدودهم زهرية، كانوا في غاية الجمال. بعد عشرين عامًا على ولادة عمي (الوحيد الذي بقي حيًا) وُلد أبي ولم تُنجب جدتي بعد ذلك. لم يكن عمي طبيبًا مشهورًا ولا عالمًا، ولا رجلًا سياسيًا، ولم يكن جميلًا كإخوته، كان قصيرًا ونحيلًا، وبسيطًا ووحيدًا، يمرّ بين بيوت القرية، يختار أحدها ويطرق الباب فيشفق عليه أصحاب البيت فيضعون له صحن طعام، يأكل طعامه بدون أن ينطق بكلمة، ويمضي.
لم نكن نعرف أنا وإخوتي الثلاثة لماذا لا تحب أمي عمي. توفي أبي منذ كنا أطفالًا صغارًا بمرض في قلبه. أذكر أنها كانت دائمًا تصرخ بوجه عمي، وهو يمضي فيما يردّد كلمات غير مفهومة بين شفتيه، أعتقد أنه كان يردّد اللعنات. فيما بعد كنا نعرف أنه كلما صرخت أمي بوجهه كان يقطع شجرة من الكرم المحيط ببيتنا القروي، وهذا ما كان يُغضِب أمي ويُحزننا. لم تكن أمي تحب أن يدخل عمي إلى بيتنا، تقول إنه لا يستحمّ وإنه غير طاهر، ولا يعرف بأمور الدين، وكانت تضع له صحن طعام في الدار الخارجية، فكان يأكل ويذهب إلى غرفته التي كانت في الطابق السفلي لبيتنا. كان الطابق السفلي يتألف من غرفة عمي والتي كانت منزل جدي قبل زمن، وملاصقًا لها هناك غرفة كبيرة، كانت بئر مياه لبيتنا تتجمّع فيها أمطار الشتاء لنستخدمها طوال السنة، فلم تكن أنابيب مياه الدولة موصولة إلى قريتنا النائية. أما بيتنا فكان في الأعلى فوق غرفة عمي وفوق البئر.
كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما قصدنا القرية بعد غياب سنوات، وبدأتُ أفكر في حال عمي، ومعاملة أمي له، سألتها:
لماذا عمي على هذه الحال يا أمي؟ هل خُلق هكذا، أم حصل معه شيء ما؟
عندما وُلد، وُلد صامتًا، لم يبكِ. ظنّ جدّك وجدّتك أنه ميت. وكان ليل، فوضعوه فوق السور الحجري في الخارج، على أن يدفنوه عند الصباح.
يا إلهي، كم هو محزن هذا الأمر.
نعم محزن كثيرًا، عند الصباح كان يتحرك، فوضعته جدتك على صدرها وأرضعته، لكنه لم يكن يتغذى جيدًا، فكبر ضعيف البنية وحزينًا طوال الوقت.
وعندما كبر، ألم يحاول جدي أن يعلّمه القرآن كما علّم أبي؟
لا لم يكن يرغب بذلك، أخذه جدك مرارًا ولكنه كان يهرب.
هل فكر بالزواج عندما كبر؟
عندما كان في العشرين من عمره أحبّ جليلة.
من جليلة، تلك المرأة التي يرتاد بيتها الرجال؟
نعم، لم تكن كذلك في الماضي. كان والداها على قيد الحياة ورفض والدها تزويجها به، ثم طلب 25 ليرة ذهبية لتحقيق مبتغى عمك، ولكن جدك لم يكن بمقدوره ذلك. كان جدك فقيرًا جدًا. لم يعرف جداك طعم اللحم في الطعام إلا عندما نزل أبوك إلى بيروت في الرابعة عشرة من عمره ليعمل حمّالًا في سوق الخضار في منطقة “فرن الشباك”. وكان كل شهر يأتي إلى القرية مع مبلغ يُسعد فيه والديه طوال الشهر. كان ذلك بعد قصة عمك بسنوات كثيرة.
أشفقت كثيرًا على عمي، وقررت ذات مساء أن أتحدث معه عندما يعود إلى البيت. وهذا ما حصل، جلست قربه في الدار الخارجية لبيتنا وسألته:
هل أنت بخير؟
نظر إليّ دون أن يجيبني.
عمي، حدّثني عنك. عن جدي وجدتي وعن أبي وعنك أنت.
بعد وقت، وتنهيدة منه وصبر مني، قال بصوت خفيض:
أمي فقط، عندما ماتت أصبحت الحياة فارغة. منذ أن ماتت أنا وحيد.
أعرف أن أمي ليست حنونة معك، ولا تُشعرك أننا عائلتك، ولكنها تقول إنك لا تستحم، ولا تصلي.
أصلي؟ لمن أصلي؟الله ؟ لا يوجد شيء اسمه الله، أنا لا أحب أحدًا.
عمي، حسنًا، لماذا لا تعمل وتتزوج.
هزّ رأسه عاليًا بالرفض وقال:
لماذا أتزوج… ولماذا أعمل؟ لا أحب أن أعمل.
قال جملته وتوجّه إلى غرفته، وأنا دخلتُ بيتنا وأخبرتُ أمي بحديثنا، فاستهزأت بي وتعجبت أنه تحدّث معي ولو بهذه الكلمات.
ذات يوم قصدَنا عمي إلى بيروت بسبب القصف الإسرائيلي الكثيف والمتواصل على القرية. اضطرت أمي لاستقباله في البيت بعد أن أجبرته على الاستحمام واشترت له ثيابًا جديدة. في اليوم التالي ارتدى ثيابه القديمة وخرج، وبقي على هذه الحال لمدة شهر. يخرج من البيت طوال النهار ويعود مساء. وكانت أمي تسأله كل يوم إلى أين يذهب فلا يجيب، طالبة منه أن لا يبتعد لأنه قد يضيع في إحدى طرقات بيروت الضيقة، فقد عاش طوال حياته في القرية.
وفيما كنتُ أنظّف البيت مع أمي إذ بنا نرى داخل فراشه كيسًا ثقيلًا، فتحناه فوجدنا فيه مئات الليرات المعدنية والتي كانت تساوي الكثير مقارنة بيومنا هذا. احمرّ وجه أمي وشعرَت بالغضب يتملّكها، وقالت: “سأريه عندما يرجع ماذا سأفعل به”. سألتُها إن كان يسرق فقالت: “لا، عمك لا يسرق، ولكنه يفعل شيئًا مثل السرقة”.
عندما عاد عمي أنّبته أمي كثيرًا وقالت: “أتيتَ إلى بيروت لتحتمي من إسرائيل أم لتشحذ. هل تريدني أن أخجل أمام جيراني والحي، ويقولون إننا لا نطعمك، لذلك صرت شحاذًا”. وسألتَه: “أريد أن أعرف فقط من علّمك على الشحاذة؟”. لم يجب عمي بأي كلمة، فطردته من المنزل وقالت له: “عند الصباح، دبّر نفسك بالذهاب إلى القرية، لا أريد أن أراك بعد الآن”.
بكينا أنا وإخوتي ونحن نراه يحمل صرّة ثيابه ويخرج منكسرًا، كما كنا نراه في القرية، بنفس الانحناءة، تذكرت كلامه عن أمه. ربما بدأت انحناءته هذه منذ أن ماتت أمه. طلبنا من أمي أن يبقى عندنا حتى آخر الأسبوع فنوصله إلى القرية، فوافقت على مضض، وقالت له أن يبقى حتى نهاية الأسبوع.
بعد أيام زارتنا جارتنا في بيروت لتقول لنا إنها رأته يشحذ في الشارع القريب. غضبت أمي كثيرًا وقالت لنا: “طلبتم مني أن يبقى بضعة أيام، أنظروا كيف بدأ أهل الحيّ يتكلمون عنا بالسوء. هل عرفتم الآن لماذا لا أحبه؟”.
رحل عمي ليلتها إلى القرية التي دخلها الاحتلال الإسرائيلي في نفس الشهر، ولم نرَ وجهه بعد ذلك اللقاء إلا عند خروج الاحتلال بعد مضي خمسة عشر عامًا.
عند رحيل الاحتلال، ذهبنا إلى القرية. نزلتُ إلى غرفة عمي مساء لأراه. كانت غرفته موحشة وباردة، وكان مستلقيًا على سريره، رأيته مريضًا ووحيدًا. جلست قربه على السرير وسألته عن حاله فقال لي: “أنا أحبك”. شعرتُ برغبة عميقة بالبكاء الشديد عندما قال لي ذلك. ثم قال لي: “أشعر بأني مريض”.
في اليوم التالي أخذه أخي الأكبر لإجراء فحوصات وتبيّن أن لديه المرض نفسه في قلبه الذي توفي من جرّائه والدي، وبأن لا شفاء منه. جهزنا له سريرًا في بيتنا، على أن يمضي الصيف معنا. اهتممنا جميعًا به. كان يجيبنا جميعًا عندما نكلّمه، إلا أمي.
اهتم أخي الأكبر كثيرًا به، أدخله المستشفى مرارًا. وذات يوم، استيقظنا صباحًا فلم نجده على سريره. خرجتُ أنا وأمي نبحث عنه ونسأل أهل القرية إن كانوا قد لمحوه في مكان ما، أجابنا أحدهم: “كان يمشي عند التلة، قاصدًا بيت جليلة”.
شعرتُ بوجع في قلبي، تخيّلته يريد توديعها فقد كانت حبّ حياته من أولها لآخرها. انتظرنا عودته. وبعد مرور أقل من أسبوع على ذلك، وكان يومًا باردًا من شهر تشرين الأول/ أكتوبر فارق عمي الحياة.
بعد سنوات، قررت أمي تقسيم الميراث، فأعطت أحد إخوتي بيتنا في القرية، وهي من عادات معظم جيل أمي في لبنان، وخصوصًا في القرى، حيث يُعطى الابن الأملاك فيما تُعطى الابنة حصة من المال. طلبتُ من أمي غرفة في المنزل بدل حصتي من المال، فقالت بأن آخذ غرفة عمي إن أردت.
أصلحتُ غرفة عمي وأصبحت بمثابة “شاليه”، كما يقول أخي. وبالرغم من أنني اخترت الألوان الزهرية والبنفسجية للجدران وللأثاث، إلا أنني كلما حاولت أن أنام ليلًا، أشعر بالوحشة وبالوحدة الشديدة، وأتخيل عمي عندما زرته في الغرفة قبل أعوام، بقي في ذاكرتي حزينًا ووحيدًا ومنكسرًا، وأتذكر وجهه الحزين وهو يقول: “فقط أمي، عندما ماتت أصبحت الحياة فارغة، منذ أن ماتت أنا وحيد”… عبارة سأردّدها كثيرًا بعد ذلك.
الكاتبة والشاعرة دارين حوماني