أماكن خاصة ( الحلقة 11 )
” دارة أم العبد”
كنت أريد أن أكون قريبا، من دار المعلمين بطرابلس، بعدما عانيت من بُعد الشقة عنه لسنتين. عرفت من أحد زملاء الدراسة، أنه اهتدى إلى غرفة في دارة أم العبد. مقابل بناية قمر الدين. وهي لا تبعد كثيرا عن دار المعلمين. كان يسكن فيها سابقا، لعامين. كانت الدارة على الطريق العام، في الوسط التجاري، لمحلة أبي سمراء. وحوْلها العمارات الحديثة. وكذلك المحال والمخازن التجارية. دعاني صاحبي لزيارة هذة الدارة. عرض علي أن نسكن معا. كان في السنة الثالثة. أي في السنة الأخيرة للدراسة. في سنة التخرج من الدار. أما أنا فكنت تأخرت عنه. كنت في السنة الدراسية الثانية.
توافقنا على التشارك معا في السكن، بعد تلك الزيارة التفقدية. رأيت الغرفة تصلح لنا. نسكن فيها صاحبي وأنا معا. كانت غرفة واسعة. وأمامها جنينة صغيرة. مغروسة بشتى أنواع الزهور. كانت لها بوابتان على الشارع العام. وكان لها بابان. باب مسقل للغرفة. وباب مستقل لبيت أم العبد. كان للدارة جنينة صغيرة. وكان أمام كل باب، شجرة “إيكي دنيا”. تبيت فيها العصافير.
كانت غرفتنا، منفردة، لها حمامها الخاص. ولها باب خلفي على درج البناية. بالإضافة إلى الباب المطل على بوابة الورود. وكانت دارة أم العبد، من طابقين. كان يسكن في الطابق العلوي، أستاذنا في دار المعلمين: سعدي الخياط، مع عائلته. كان من أرقى الأساتذة الذين أفدت منهم. كان مدرس التاريخ. وجهني في دراستي. وعلمني كيف أدرس. وكيف أحفظ دروسي، وكيف أمتحن نفسي بنفسي، بتحرير ما حفظت على اللوح، أو على الورق، قبل أن أقطع الأمر مع نفسي، وأقول لها: إني قد حفظت.
كان الأستاذ سعدي، أول ما يخرج من بيته في الطابق العلوي، وينزل على الدرج، يمر من أمام البوابة. يحيينا، ويحيي معنا أم العبد، التي كنت تتربع على كرسي من القش، وأمامها طبلية لا تبرحها، تضع عليها حاجتها. تحضر عليها الحبوب والخضار والثمار. كنت أراها تقشر كل صباح برتقالة. كانت لا تبدأ طعامها في الصباح إلا بها.
كانت دارة أم العبد مسكني لسنتين.كنت وزميلي عادل ساسين من بلدة القبيات، الذي تخرج وغادرني. ثم كنت مع زميلي، علي عبيد، من بلدة قرحا على الحدود مع بحيرة حمص. رحل أهله إليها في ظروف عشائرية قاسية. كان سكني في هذة الدارة بركة علي. نلت فيها شهادة دار المعلمين، وشهادة البكالوريا اللبنانية، بقسميها. وهذا ما فتح لي أبواب الدراسة الجامعية، ووضعني على سلم الترقي، في الدراسة الجامعية.
كانت دارة أم العبد مزار الشمس كل صباح. تشرق عليها من كروم الزيتون. وإذا ما أردنا وداعها عند الغروب، كنا نخرج إلى السطح، فنراها كيف تودع حكاياها في البحر، وترمي على المدينة شرشف الليل. فنسرع إلى فلافل المعلم نجيب الأورفلي، قبالة الجامع، خلف ساحة سعدون. نقف في الصف، حتى نحصل على سندويش الفلافل. كانت سمعة نجيب الأورفلي الفلسطيني، في تحضير الفلافل، على كل شفة ولسان، في الأمسيات، التي نمضيها بين الفيلات، في طرقات أبي سمراء الفواحة الليلية.
كانت غرفتي، تطل على الجهات كلها. كانت كل جدرانها، للنوافذ والشبابيك والأبواب. كانت كثيرة الخروقات. وكانت ستائرها من الأقمشة المطرزة بالخيوط الذهبية. كانت هذة الغرفة، هي غرفة أم العبد، قبل رحيل زوجها. فصارت بعد ذلك تؤجرها، وتشاطر إبنها عبد الرحمن غرفته. تستعين على شؤون الحياة بأجرتها. أما كراج السيارة، فقد صار محلا لبيع العصائر والجلاب. فتحته أم العبد لإبنها، حتى يكون دائما بقربها. كان العبد رجلها، بعد رحيل زوجها.
كنت أخرج مع الشروق ، إلى السكة البيضاء ، أو إلى ” الشلفة ” . أحمل معي دفاتري وكتبي وأوراقي. كنت من التلاميذ المشائين، بين كروم الزيتون، أو على مطلات المرجة. جزيرة المرجة وجنائنها المغروسة بجميع أغراس البرتقال والليمون. والمميزة بجسر القناطر فوقها. كنت لا أعود من هناك، إلا بعد أن أسمع الجرس الأول يقرعه الناظر لنا في الثامنة. كان دار المعلمين كما دارة أم العبد، فوح وضوع عطر الزيتون والليمون. فوح زهر الزيزفون، على جميع الدوروب السالكة إلى الكروم.
كانت دارة أم العبد مطلة، على جميع البنايات في المحلة. كانت تستقبل نسوة الحارة. تقدم لهن القهوة والجلاب، بأسعار مهاودة. كان إبنها العبد، يضع وزرة الباعة على خصره: شابا وسيما في مقتبل العمر، لا تفارق ثغره الضحكة البيضاء الفارغة. وكانت صبايا المدارس، وصبايا دار المعلمين، يأتين إلى دارة أم العبد. يشربن بالكؤوس النحاسية الجلاب والعرقسوس والتمر هندي. وأما عصائر الرمان والليمون وماء الورد وماء الزهر، فكانت تصفى لهن في كؤوس زجاجية شفافة مذهبة.
في دارة أم العبد، دخلت مدرسة الحياة من أبوابها. ما كنت بعد قد تذوقت معنى الحب، ولكني كنت أراه. كان زميلي عادل، كما كان زميلي علي من بعده، قد تعودت عليهما،عاما بعد عام، ينتظرانني أن أحمل كتبي وأخرج من الدارة إلى الكروم للمراجعة بعيدا. وكان الباب المطل على الدرج، الذي حذرتنا أم العبد من فتحه، يفتح في غيابي تسللا، لحب التسالي. حب ألوان التسلية. كنت أعرف ذلك من ضوع عطر البنات، بين الجدران التي كانت تغلق بإحكام. وبين الستائر المسدلة. كنت أعرف ذلك، في وجه صاحبي. كانت دارة أم العبد، تضرب المواعيد للشباب وللبنات، على كاسات الجلاب، وأكواب الشراب.
كان للزاروب المقابل لدارة أم العبد، ظلة عظيمة. تفترع فوقه شجيرات الزيزفون الحانية. وشجيرات الصفصاف الدانية والفارعة والباكية. فترى خلف جذوعها مخبأ القطط التي تخف إلى دارة أم العبد، تسرق خطوها، إلى النوافذ المواربة، حتى يدخل منها الحنان، إلى غرفة الشباب. كنت كثيرا، ما أضرب المواعيد عندي في الغرفة، لكل أصحابي من شباب الدار. كنا نتبادل العذوبة وحكايا العزاب، تحت سقف دارة أم العبد، حتى تعلو شمس النهار. كانت دارة أم العبد موئل الشباب والصبايا، من كل الأعمار. كانت الشبابيك للرسائل. نلوح بالأيدي، فتصل الرسالة إلى الزاروب. ندى عطرا ترطب القلوب، تحت شجرة الزيزفون.
كانت دارة أم العبد، الدار التي علمتني وأنهضتني، مثلما تعلمت، ومثلما كنت قد نهضت من دار المعلمين: شابا ورجلا ومدرسا.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الخسين