دعا الشاعر والاعلامي حبيب يونس الى اعتماد تسمية ” الخطيفة ” بدلا من ” الومضة أو الأدب الوجيز ” لان شاعر الخطيفه هو خطّاف صورٍ ولألئ , مشددا على ضرورة أن تحمل تلك القصائد الايقاع الذي يعتبره غير موجود الا في التفعيلة والأوزان والقافبة .
جاء ذلك خلال كلمة للشاعر في احتفالية توقيع ديوان ” رماد أزرق ” للشاعرة د. لارا ملاك الصادر عن دار زمكان , أقيمت في المكتبة الوطنية في بعقلين يوم الجمعة الماضي .
وقال الشاعر في معرض قراءته النقدية للديوان بأنّ الشاعرة لارا في رمادِها الأزرق، تمعنُ في النُّضج، فاسحةً أمام الأدبِ الوجيز دروبًا جديدةً للسَّيْر، وفضاءاتٍ وسيعةً للتَّحليق، وآمادًا لا تنتهي لتسريحِ البصر والرُّوح..
الشاعر حبيب يونس يلقي كلمته خلال الندوة في بعقلين
هنا النص الكامل لكلمة الشاعر حبيب يونس في توقيع كتاب “رمادٌ أزرق” للدُّكتورة لارا ملَّاك – بعقلين – 23 – 6 – 2023 :
أسعدَ اللهُ أزرقَ حضورِكم
أفْقًا ومدًى، بحرًا وسماء
قبلَ الرَّمادِ، وقبلَ أزرقِه، وبلغةِ القلب… أستعيدُ ما كتبتُه قبلَ ستَّةَ عشرَ عامًا في نيسانةٍ تناهى إليَّ أنَّها مرَّت ببعقلين، فسمَّيتُها “حلوةَ بعقلين”، قلت:
بْعَقْلين
فَخْر الدّين
أَوْ إِنْتي؟
حِلْوي قالولي
هَلَّق بْعَقْلينْ.
الِسْيوف وِعْيو
وْصارِت تْشَتّي
وِالأَرْض لِبْسِتْ
ريحِة الْحِلْوينْ…
وكأنَّني، هذه العشيَّة، وسطَ هذا الجمعِ الكريم، بدعوةٍ منَ المكتبةِ الوطنيَّة في بعقلين وبلديَّةِ حارة جَندَلْ، أشمُّ رائحةَ الشَّتوةِ الأولى، وقد أمطرَتْ وجوهًا مُحِبَّةً، وأهلَ نخوةٍ وأصالة، وأيديَ شُرِّعت للتَّرحابِ، فعلتْ قناطرَ وأقواسَ فرحٍ وزينة.
وكأنَّ المصادفة، ذاتَ المعنى، أن تكونَ زيارتي الأولى لبعقلين، قبلَ نصفِ قرنٍ تقريبًا، لِمَلَّاكِ منزلِنا العائليِّ في بيروتَ، وقد قصَدناه صَيفذاكَ، لحضورِ زِفافِ كريمتِه… “وكلَّ إيّامكُنْ فرح”.
وها أنا اليومَ، أعاوِد الزِّيارةَ للمشاركةِ في عُرسِ الحبر، وما العروسُ إلَّا بنتُ ملَّاك. فهنيئًا لنا، لارا، ومباركٌ لكِ دكتورة لارا، كتابُكِ الثَّالث، أنتِ من تُزفِّينَ إلى القلم. ومَن منكِ أجملُ لتكوني عروسًا له؟
قلتُ الكتابَ الثَّالث. وكلُّها، الكتبُ الثَّلاثة: “أنثى المعنى”، و”لا وبعضُ اسمها”، و”رمادٌ أزرق”، أبناءُ حداثَةٍ كتابيَّةٍ رَحِمها واحدة، اتَّخَذت تسمياتٍ متنوِّعة: الأدبُ الوجيز، شعرُ الومضة، التَّوقيعة، الخاطرة، الشَّذَرَة، الهايكو العربي، وحلا لي أن أنسِج لها اسمًا، على قياس “القصيدة” و”النَّثيرة”، فسمَّيتُها: “الخطيفة”.
“خطيفة”… لأنَّ من يكتبُ هذا الأدب، خطَّافُ صورٍ ولُمَعٍ، صيَّادُ لآلئَ ومحارات، من قاع النَّفس البشرية، والوِجدان. قل لِصًّا ظريفًا يهرِّب القمرَ بين حوائجه، إلى صفحةٍ بيضاءَ، على طاولةٍ في مقهًى يرتادُه السَّهارى، وفي ظنَّهم أنَّ القمرَ ينتظرُهم فوقُ، لينيرَ دربَ عودتهم، فيما هو باتَ يومض في دواخلِهم، يضيئها معانيَ جديدة ومساراتٍ، ولو لم يدروا… واللِّصُّ قبالَتَهم يعاينُ جريمتَه في وجوههم.
غلاف ديوان الشاعرة د. لارا ملاك
حسبُ لارا، مذ عرفتُها، قبل خمسةِ أعوام، في أمسيَّةٍ للأدبِ الوجيز، استضافتها “جمعيَّة تجاوز الثَّقافيَّة” الَّتي أنتمي إليها، في جونيه، وكانت فيها سندًا للرَّاحل العزيزِ أمين الذِّيب، أحدِ روَّاد هذا النَّوع الأدبيِّ، ومن ثَمَّ حين جمَعَتْنا أمسيَّةٌ تحت العنوانِ نفسه، في الفريكة، وضمَّت لُمَّةً من الشُّعراء، في حضرة روح منير أبو دبس… حسبُ لارا أنَّها كاهنةُ الهيكلِ، كما وصفتُها في مقدِّمتي لكتابها الثَّاني.
اعتنقَت لارا، عن اقتناعٍ، هذا النَّوعَ من الكتابة، بأشكالِه ومضامينِه ومراميه، وجمالاتِه، وتجاوزاتِه، وأبعادِه، وصارت رسولةً له، تبشِّر بالومضة على أنَّها جميعُ النُّور، وتكرِزُ بالبرق على أنَّه جميعُ الشِّتاء، وتشهدُ للالتماع على أنَّه سيفٌ في قبضةِ أمير… قُل سيفَ فخرِالدِّين.
وها هي لارا في رمادِها الأزرق، الَّذي به نحتفي معًا اليومَ، تمعنُ في النُّضج، فاسحةً أمام الأدبِ الوجيز دروبًا جديدةً للسَّيْر، وفضاءاتٍ وسيعةً للتَّحليق، وآمادًا لا تنتهي لتسريحِ البصر والرُّوح، لتؤكِّدَ ما قلتُه فيها قبلًا: معَها تتمرَّد الكلمةُ على معناها، والموسيقى على نغمِها والإيقاع، والقصيدةُ على شكلِها ووظيفتِها، والحبرُ على بطنِ الحوت… ولها منِّي الشكرُ والعِرفان، أنَّها أنقذت جدِّي يونُس، من ذاكَ البطن.
د. لارا ملاك خلال توقيع ” رمادٌ أزرق “
تقول لارا في الثَّورة على مألوفِ المعنى:
“عينٌ وشمس تشتعلانِ،
تمالحانِ البحرَ
ينجو منهُما الغرقُ”.
يخشى الإنسانُ الغرقَ في البحرِ، فإذا بلارا تجعلُ الغرقَ ينجو من تلاطمِ فكرتِها بلججِ خيالها الواسع… فيعومُ ويسبحُ على سبعِ خرزاتِ ظهرِه، كمن يغطُّ في نومٍ عميق.
وتقول لارا في مفارقات المكان الكثيرة التي نحياها يوميًّا، ولم نفكِّر قبل لارا يومًا، في أن نجعلَها خبزًا على مائدة الحبر:
نحنُ، الخائفينَ من البردِ،
نبني بيوتَنا بالثَّلج.
كأنِّي بها تستعيد الـ”داوني بالَّتي كانت هي الداء”، فيما خمرةُ المفارقةِ الصَّفراء تدور على فِتيةِ الحبر، فيخرجُ المعنى الجديدُ متعتَعًا سُكرًا ومنتشِيا.
وتقول لارا في معنى النَّجاة أيضًا، ضمن المفارقات في أشيائنا اليوميَّة والارتكابات:
“وَسَأَلْتَني:
كيفَ نجا هذا العطرُ
الَّذي رميناهُ مرارًا من أعلى العنق؟”
لم تُجِبْ سائلَها، لأنَّ عطَر الحروف الَّذي رمته من أعلى قلمها، نزَلَ على الورق أزاهيرَ وشجرًا مثمرا.
وتقول لارا في زَمْكانيَّة العناصر، ما لم تكتشفْه في نفسها العناصرُ، وجميعُ علماءِ الطَّبيعة والجاذبيَّة:
“لا عطرَ يُغني عن الهواءِ
لا سريرَ أوْلى من الجسد”…
كأنَّها أمامي ما قلتُه في زمْكانيَّة الغابات والحقول: أَلصَّفْصَافُ حَكَوَاتِي الشَّجَرِ، وَالْحَوْرُ شَاعِرُهُ الْأَنِيقُ.
فلارا هنا حَورةٌ بحفيفِ روحِها الخفيفِ حتَّى الفيء، إلى أن يسكتَ الصَّفصافُ عن مباح ِالكلام.
أوردتُ نماذجَ من “رماد أزرق”، ولكم أنْ كلَّما طويتُم فيه صفحة، تومِض لكمُ الكلمات، وتبرُقُ الأسطر، وتُشرق شمسُ المتعة الأدبيَّة.
الشاعر حبيب يونس يقرأ في ” رماد أزرق ”
هو إذًا الأدبُ الوجيز، من طه حسين إلى أمين الذيب، مرورًا بعزِّالدين المناصرة. لكنَّه ليس كلَّ الأدب.
له مريدوه، ولارا من المبشِّرين به، القابضينَ على أسراره، المتضلِّعين من مفاتيحه، إيحاءً ورمزيَّة وتكثيفًا وغموضًا محبَّبًا، بما يواكب عصريَّة الحياةِ بإيقاعِها السَّريع وتلميحاتِها الَّتي تُغني عن مطولاتٍ وأدبياتٍ في التَّواصل والتَّخاطب، مفرطةٍ في اللِّياقات، التَّقليلُ منها، والاكتفاء بالمناسبِ وَفق الظَّرف، لا يعنيان قلَّة تهذيب.
وإذ أستعيد بعضًا من نقاشي مع الرَّاحل العزيز أمين الذيب، أمسيتذاك، أكرِّر رغبتي في تمتينِ هذه النُّصوص بالإيقاع، لتقرُبَ أكثرَ من شعر التَّفعيلة، وإلَّا شبَّهتُها بالقصَّةِ القصيرة جدًّا الَّتي كان لي تجربةٌ فيها، في كتابي “عكَّازٌ للسَّماء”، وقد عدَّه بعضُ النُّقَّاد شعرًا، والبعضُ الآخر أدبَ ومضة… فيما هو نثرٌ خالص، بقالَبٍ قَصصي مكثَّف.
وأسوق مثلًا عما أنادي به، في حداثة الأدب، محافظًا فيه على الوزن والقافية، ومبرزًا التَّكثيف والإيجاز والإيحاء. أقول في رؤيتي للخابيةِ ومعناها:
أَلْخَابِيَهْ
تُبْقِي النَّبِيذَ، شَبَابَهُ،
عِنَبًا بِبَال الدَّالِيَهْ.
أَلْخَابِيَهْ
قُلْهَا الْعَجُوزَ
بِخَمْرِهَا مُتَصَابِيَهْ.
فهل خطرَ على بالٍ، قبلُ، تشبيهُ الخابيةِ بالعجوز المتصابية؟
وعليه، أدعو لارا، وجميعَ أنصارِ الأدبِ الوجيز، إلى إعلاءِ شأنِ التَّحديثِ باعتمادِ الوزنِ والقافية، لأنَّ الإيقاعَ الموسيقيَّ الَّذي يُضفيانِه على النَّصِّ ما هو إلَّا نبضاتٌ يقاسُ الجمالُ عليها…
حسبي انتهيتُ، فماذا يريد بعدُ الومضُ منِّي؟
بحداثةٍ موزونةٍ مقفَّاةٍ أختِمُ، لعلِّي أُقْرِنُ قوليَ السَّابق بفعلٍ من قريضٍ أزرقَ:
حَسْبُ الرَّمَادِ إِذَا تَنَاثَرَ يَبْرُقُ
قُلْ مِنْهُ ثَمَّةَ طَائِرٌ قَدْ يُخْلَقُ
لَيْسَ الرَّمَادُ بِخَيْبَةٍ، بَلْ نِعْمَةٌ
وَمْضًا وَبَرْقًا وَالْتِمَاعًا تَدْفِقُ
مَنْ قَالَهُ مَوْتًا بِهِ قَدْ تَنْتَهِي؟
لِمْ لَا يَكُونُ بِدَايَةً تَتَحَقَّقُ؟
قُلْ وَاقْرَإِ الْآفَاقَ، مَا اشْتَاقَ النَّدَى
لِلزَّهْرِ يَغْمُرُهُ، يَغُلُّ وَيَعْشَقُ،
قُلْ وَانْثُرِ الْألْوَانَ حَيْثُ تَجَمَّعَتْ
فِي الصَّدْرِ آهَاتٌ تُجَنُّ وَتَشْهَقُ
قُلْ وَاكْتُبِ الْوَمَضَاتِ فِي سِفْرِ الرُّؤَى
أَنْ لَيْسَ بَعْدَ الْيَوْمِ لَيْلٌ يَقْلَقُ
قُلْ وَارْسُمِ النَّبَضَاتِ لَهْفَ مُشَرَّدٍ
تَاهَتْ بِهِ الْأَبْوَابُ، شَوْقًا يَطْرُقُ
وَقُلِ الْمَدَى، الْبَحْرَ، السَّمَاءَ، الْمُنْتَهَى
قُلْ زُرْقَةً، يَخْتَالُ فِيهَا الأَعْمَقُ
وَاتْبَعْ صَلَاةَ الْحِبْرِ فِي لُقْيَا غَدٍ
يَأْتِيكَ مِنْ حَيْثُ الرَّمَادُ الْأَزْرَقُ…
لارا ملَّاك لكِ الغدُ، أزرقَ، فمن رمادِ ديوانِك، انتفضَ يحلِّق الآن في سمائنا طائرُ فينيق.
بوركت للكتاب، ومباركٌ رمادُك الأزرق.
الشاعر حبيب يونس