منصة ” السبت الثقافي ” بقلم الكاتبة والاعلامية دلال قنديل :
يتوارى”دار المصور” خلف قلق بيروت… و”عازف البيانو” يكسر وحشة المكان.
-×-×-×-×-
تُمسك الصورةُ لحظاتِنا المتفلتة في ذاكرة بلاد غارقة بعذابات حروبها . ثمة من تجرأ على الحلم بدار للصور لا بل للمصور . دبت الحياة فجأة بذاك المكان المتروك قبل أن يصبح اسماً من معالم بيروت ، داراً للفن يعج بمصورين من كافة الاجيال . يتسامرون ، يتبادلون الخبرات ويفرغون هموم مهنتهم على طاولة قهوة مفرودة للقاء.
هكذا هي عادة زميلهم رمزي حيدر الذي لا يُكثر ربما من الإبتسام ، لكن أبوابه المفتوحة تشي بقدراته على العطاء.
صاحب “دار المصور “” الفنان الفوتوغرافي رمزي حيدر
“الدار “مشروع مغامرة للمصور رمزي حيدر اللبناني الحائز جوائز عالمية ، إفتتحه من تعويض نهاية خدمته في وكالة الصحافة الفرنسية ، بعد تجوال لسنوات بين حروب الشرق الاوسط المتنقلة . ما زالت ماثلة تلك اللحظات التي تحدث فيها بشغف عن توليد مكان للمصورين في زاوية من زوايا المدينة الى ان اهتدى لمكانه وبات بمثابة منزل لكل موهوب أو راغب بصقل موهبته.
لم نسمع يوماً قهقهة رمزي إلا لدى سؤاله عن الخوف . كيف يخاف من خاف منه المرض ، بعد تغطيته حرب العراق . لا عُرف سببه ولا كيف اختفى .
يؤمن رمزي بأنّ معجزة الحياة تكمن بتحديها . هكذا مضى بمشروعه عنوة عن ذبول المدينة ، عنوة عن تلاشي أخلاقيات الصحافة والتصوير .
من معرض فوتوغرافي في دار المصور
لم تعد بيروت موطىء قدم للوافدين وفراغ الداخل ينهش البلاد وما فيها… على ماذا يراهن رمزي وأمثاله ؟
يقفلُ “دار المصور” ، صرح موزع بطابقيه ، ينسج أمسيات المدينة وصباحاتها بالدردشة والعمل. طابقه الارضي يفلت من السياج بحديقة تعجُ بشبان وشابات بنخب اليسار بكافة تدرجاته ، الى جيل متعدد المشارب والثقافات والجنسيات ، جيل شبابي تواق للحرية .
درج المبنى العتيق يقود الى بهو بقاعتين قليل الإضاءة يشرف على بلكونة لطالما كانت طاولتها وزواياها مكان خلوة المصورين على اختلاف أجيالهم وجنسياتهم.
شهدت قاعات الدار معارض شتى ، ورش عمل عربية ودولية ، مهرجانات ترفع الصورة الى مستوى الابداع الفني .
من معارض دار المصور
يتوارى ” الدار” الى زقاق قد يحمل يافطة بإسمه، أسأل صاحب المشروع الصديق المصور الشغوف رمزي حيدر عن السبب يقول ” إن الإيجار بات باهظاً وهو غير قادر بعد على حماية حلمه باقتطاع أجزاء من لحمه الحي كل شهر، على جري عادته في الأشهر الأخيرة.”
تمضي أيامٌ ، وجه المدينة التي احببناها أيضاً يمضي.
النادل ليس نفسه، روح رمزي مازالت هنا، شجيرات حملها قبل سنوات نبتات صغيرة ، تُزين مدخل ” الدار” تُورق الشجيرات رغم الغياب، كافح رمزي بجسده، كابر على الخوف والمرض والتعب بقي صامداً، يقابل بالدهشة إرادةَ الهجرة ورغبة الارتحال لدى رفاقه.
“زُومُ” عدسته لم يزح عن تعب الوجوه إلا لإضافة “عرس” لزمن الحروب.
رأينا الحرب بعينه الناقدة ، تلمسنا أوجاع ضحاياها ، وجوه مفقوديها وموت احيائها اليومي ، رأيناها معلقة على الجدران.
يكمل “عازف البيانو ” أنشودة موته، يكسر وحشة المكان . الصورة اللوحة مازالت هناك ، كأنها تعيد بناء مشهدية الفيلم الشهير ل “عازف البيانو” في الحرب العالمية.
صورة عازف البيانو كما التقطها عدسة الفنان رمزي حيدر
رافقت الفيلم تحولات درامية عدة ، لكن كان هناك تحول درامي هادئ ومبهر عبر الموسيقى ، وذلك حين اكتشف ضابط نازي مكان اختباء البطل في أحد المنازل المهدمة ، فقد كان بارداً وجائعاً يحاول فتح علبة طعام ، سأله الضابط “ما الذي تفعله؟” ، أجابه العازف بتردد “كنت عازف بيانو”. اصطحبه الضابط لغرفة مخربة وطلب منه العزف ، فجلس أمام البيانو خائفاً وبينما بدأت أنامله تداعب بحرفيّة البيانو تبدلت معالمه و تحولت ملامح الضابط النازي من القسوة للانبهار ، وتلاشى العنف الذي يطبع وجهه.
قبل ايام قليلة ، دلفنا الى إحدى الطاولات في مقهى “الدار”، كان المساء ناقصاً بلا رمزي في “دار ورد” وريث “دار المصور” الذي مازال يبحث عن عنوان.
حديقة الدار
خلف الحديقة ، بين قضبان النافذة تتسلل الأنغام خافتة . بالقرب من طاولتنا ، همس يلوي صمت من يعمل بانكباب على حاسوبه غير عابىء بكل ما هو خارج شاشته.
يكمل المقاتل في “دار المصور” عزفه الصامت ، معلقة الانامل على الجدار كأن الزمن توقف هناك قبل أن يمضي العازف المقاتل لحتفه ككل من تلبسته الحرب ، ينزاح عنه الجمود قبل أن يمزق جسده الرصاص . تلك الحكاية واحدة من نوادر الحروب ، الصورة وثّقت الحكاية وتلك واحدة من إبداعات رمزي التي جالت العالم.
كأن بالصورة تبحث عن عيني رمزي تحط عليها، تحكي حكايتها ، عبثية الحرب أنهكته حد الاشمئزاز ، حكاياته عنها لم تكتمل بعد.
تلاعب قطة رفيقتها ، تقفز فوق الجدار ، تمنعنا عن الاجابة بعدما يلحُ السؤال: أي بيروت تولد من هذا الهلاك؟.
القطط هنا دخيلة على المكان وقد لا تجد حتى ما يقيها الجوع ، حيث في الشوارع من لا ينتظر المساء ليغور راسه داخل حاويات النفايات بحثاً عن قوته، وعند تقاطع إشارات السير ثمة من “يقتحم” (التعبير ليس مجازياً هنا) سيارتك طلباً لمساعدة.
سنبحث عن مكان جديد يسيجُ فيه رمزي حيدر أوجاع المدينة ب “زوم “عدسته ، سنبحث عن مكان يبيح التجريب على التجريب خارج جدران المخيمات وقسوتها ، لأجيال تفتح أعينَها على موهبة تنمو بعد تدريب.
قد نعثر على “دار المصور”بعد حين في مكان ليس ببعيد عن شارع”الحمرا” وسيبقى للصور دارٌ تحط فيه وجدران نقتفي اثرها.
أما الأسى فهو على أعمار هاربة تتلهف للحظات صفاء في بلاد مَعموديتها القلق.
دلال قنديل (بيروت)
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل
*نبذة عن الفنان الفوتوغرافي مؤسس ” دار المصوِّر ” رمزي حيدر :
*رمزي حيدر مصوّر ومؤسس «دار المصوّر» في لبنان. عمل في مجلة «بيروت المساء»، ووكالتي رويترز والصحافة الفرنسية. غطى الحرب اللبنانية والاعتداءات الاسرائيلية والحرب على العراق وعلى دارفور والالعاب الاولمبية. رئيس اتحاد المصورين العرب، فرع لبنان، حائز على عدة جوائز عالمية، منها جائزة مراسلي الحروب، وجائزة مجلة نيوزويك
.
المصور رمزي حيدر
.