أين أنتم من الغربان يا معشر البشر؟!
بقلم: د. بسّام بلاّن
“نذير شؤم”.. “غراب البين”.. “فلان ينعق كالغراب للخراب”…. إلخ من هذه المقولات التي تصف وتؤكد على أن هذا الطائر مرتبط إرتباطاً وثيقاً بالسوء.
قبل أيام كنا نأخذ استراحة بجانب مقر عملنا، وجلسنا في مكان كان ثمة غربان يتناولون طعامهم فيه، وبالتالي حرمناهم من الاستمتاع به.. لم تمضِ دقائق عدة حتى راح الغربان يرموننا بالحصى كي نغادر المكان.
احدى زميلات العمل أخبرتنا أن “المربيّة” التي عندهم في المنزل، ضربت غراباً كان في طريقها، وأقسمت أنه ظلّ يراقبها حتى خرجت للبقالة بعد ثلاثة أيام، وراح يهاجمها وينعق فوق رأسها حتى كاد أن يُغشى عليها من الرعب.
وأحد الزملاء ايضاً أعدّ تقريراً تلفزيونياً عن موظف يعمل في أحد المراكز الخدمية، وفي أحد الأيام وجد غراباً فوق سيارته.. فزجره ونهره بعنف .. وكانت المفاجأة أن هذا الغراب ظل لأكثر من شهرين يهاجم ذلك الموظف كلما رآه.. ولم يجد حلاً لهذه المشكلة سوى بإبلاغ مديره بالواقعة وطلب نقله إلى فرع آخر.
……
حتى الآن لايوجد ما يثبت أو يؤكد أسباب ربط الغراب بالشؤم، فكل ما أثبتته الدراسات والملاحظات والمتابعات العلمية، أن الغراب من أذكى الطيور، ويتميز عن باقي أبناء فصيلته بأن فصّي المخ عنده أكبر من مثيليهما عند الطيور الأخرى، وأن الغراب لاينسى أبداً شكل الشخص الذي يعتدي عليه.
الغراب ورد ذكره في القرآن الكريم في سورة المائدة، وجاء في سياق تعليم قابيل كيفية دفن أخيه هابيل الذي قتله بيده.
وكان الغراب من المخلوقات التي حملها سيدنا نوح معه في سفينته قبل الطوفان، صحيح أنه عصى التعليمات وتزوج على متن السفينة، ولكن الصحيح أيضاً أن ذلك لم يُغضب سيدنا نوح، بل كلفه بمهمة البحث عن اليابسة، بعد أن إطمئن عليه بأن زواجه سينقذه من الإنقراض. لذلك فاليهود القدامى كانوا يتفاءلون بالغربان، وكانوا إذا ما أرادوا معرفة المستقبل، نظروا إلى الغربان وهي تطير.
في ثقافة الأمريكيين، الغراب أساس الأرض، وثمة اسطورة في منطقة “بوجيه ساوند” على الساحل الشمالي الغربي لولاية واشنطن، تقول إن الغراب كان يعيش في أرض الطيور التي وجدت قبل عالم البشر. ولما شعر بالملل قرر الطيران بعيداً حاملاً حجراً صغيراً في منقاره، وعندما أتعبه حمل الحجر أسقطه في محيط، وظل يتمدد حتى تشكلت الأرض التي نعيش عليها الآن.
وفي العصور المسيحية الوسطى، إرتبط الغراب بالنزاهة والوفاء، فثمة قصة في إيطاليا تزعم أنه أنقذ القديس بندكت النيرسي” نسبة لمدينة نورسيا”، من الموت بعدما أبعد عنه خبزاً مسموماً وضعه له رهبان كانوا يغارون منه. وإذا بحثنا أكثر في أساطير الشعوب ونبشنا أعماق تاريخها، سنجد قصصاً لا حصر لها عن هذا الطائر.
أما الجواب عن سؤال لما ينظر البشر الى الغراب كنذير شؤوم، دعوني أزعم أنني لم أجد له أي سند. إنطلقت مثلاً من لونه الأسود، فوجدت أن ذلك كان بسبب إعتداء غاشم تعرض له من إله النبوءة اليوناني أبولو، عندما أرسل غراباً أبيض للتجسس على حبيبته كورونيس، ولمّا أخبره بأنها غير مخلصة له، غضب أبولو بشدة وأحرق الغراب، ليتحول لون ريشه الى الأسود للأبد. فصدقُ الغراب في قول الحقيقة أخرج الإله أبولو إلوهته وطوره وتصرف معه كمجرم.. بعد أن كان هذا الطائر رمزاً لحسنِ الحظ، وكان يرسل رسائل الآلهة في عالم البشر عند الإغريق.
…..
واذا نحينا الأساطير جانباً، فقد اكتشفت الأبحاث أن الغربان لديها محاكم أكثر نزاهة من محكمة العدل الدولية ومحاكم مجلس الأمن وكل المحاكم البشرية الأخرى، حيث لا تدخل فيها سلطات تفوق سلطات القاضي، ولا فيها رشاوى ولا تدخلات من الأمن أو المخابرات، ولا الغراب الرئيس أو الوزير الغراب أو أقربائهم وأزواج بناتهم أو زوجات أبنائهم، ففي محاكم الغربان يُحاكم أي غراب يخرج على نظام العدالة الفطرية، و الجرائم لديهم ثلاثة مستويات.
الجريمة الاولى هي جريمة اغتصاب طعام الأفراخ الصغيرة، ويحكم القاضي فيها بنتف ريش الغراب المعتدي حتى يصبح عاجزاً عن الطيران كالذين اعتدى عليهم.
أما جريمة اغتصاب العش أوهدمه، فتكتفي محكمة الغربان بإلزام المعتدي بناء عش جديد.
والجريمة الثالثة، هي الاعتداء على أنثى غراب آخر، وتعد هذه الجريمة من أشد الجرائم، و حكمها قتل الغراب المعتدي ضرباً بالمناقير الحادة حتى الموت.
وتنعقد المحكمة في حقل أو أرض واسعة، تجتمع فيه هيئة المحكمة في الوقت المحدد، ويُجلب الغراب المتهم تحت الحراسة المشددة .وعند بدء محاكمته ُينكس رأسه ويخفض جناحيه ويتوقف عن النعيق إعترافا بذنبه. وبصدور حكم الإعدام، تهاجمه جماعة من الغربان وتُوسعه تمزيقاً بمناقيرها الحادة حتى يموت.. ثم يحمله غراب بمنقاره ويحفر له قبراً يتناسب مع حجمه يضعه فيه ويهيل عليه التراب تقديساً لحرمة الموت.
……..
بعد كل ما سبق، في أي رمال سندفن رؤسنا إذا قارنّا الغربان بالبشر؟.
في الثقافة الإنسانية عموماً، ثمة قاعدة ذهبية تقول: “العدل أساس الحكم”، فهل فعلاً نطبق عدلاً أو نحكم بالعدل؟
كم من الأعشاش البشرية تم انتهاكها وكم من البيوت تم هدمها وكم من الأسر شُردّت في كل مكان، والفاعل والضحية معروفان، ومع ذلك تغمض البشرية أعينها ولا تتوقف عند عدم الجرأة على محاكمة الجاني وإنصاف الضحية، بل تصل درجة السوء عندهم الى تزوير الحقائق والوقائع والدفاع جهاراً نهاراً عن الجاني، وتجريم الضحية بما ليس فيه!
والقائمة تطول.
……
إعتباراً من اليوم سأنتف ريش كل آدمي يعتدي لفظياً على غراب، أو يصفه بما لايليق به. فيا ليتنا نتمثل بالغربان، التي أظهرت السطور السابقة أنها علّمت ودافعت عن حقوقها وكرامتها، ونطقت بالصدق بوجه “إله”، وانحازت الى فطرتها وحكمت بالعدل، وأنصفت الضحية وقتلت المجرم، ولم تنسَ أن للموت حرمة وقدسية!
فأين أنتم من رقيّ وحضارة الغربان يا معشر البشر.؟
د. بسّام بلّان