الاعلامية والكاتبة دلال قنديل تقرأ في ” السبت الثقافي ” :
“الكلبة” للكاتبة الكولومبية
بيلار كينتانا
” إشكالية قتل الكائن الذي نفتقده “
-×-×-×-×-
سرد متماوج كزرقة البحر الممدود، خلف قصب البامبو يُسيجُ البيوتَ بنوافذها المشرعة.
تبدو الحَبكة سهلة، مسرحها لابطال معدودين، زوجة شابة ، زوج صياد مستسلم لإنهاك يومياته وغضب زوجته، وكلبة تغيب وتعود ببطن مليء لتلد وتلوذ بالهرب.
تتداخل تلك العوالم وتتنافر لتنتهي نهاية مأساوية.تقتل المرأة كلبتَها، تتأمل عينيها وتعبق بها رائحة بولها الذي خَلفَ بقعةً على الارض ثم رائحةً لازمتها لما تبقى من عمرها.
ليس معروفاً لدينا إسم الكاتبة الكولومبية بيلار كينتانا ، يتبين انها حائزة على جوائز أدبية من جيل الشباب
(مولودة عام ١٩٧٢ ).
نستشف من روايتها حرارة كتابات الستينيات التي فتحت ابواباً في السرد والوصف لقراء العربية.
بحر “داماريس” بطلة الرواية هوعالمها…شاسع،رحب، هادىءوشديد الغضب حد الانقضاض على رواده أحياناً.
“-ما أجمل كلبتي !لقد عقلت.
كان ذلك في آخر المساء وهي والكلبة جالستان على آخر درجة،وجهاهما إلى الخليج حيث الأمواج ترتفع مسرعة، مظلمة وصامتة مثل اناكوندا هائلة.كان هو على كرسي بلاستيكي قد أخرجه من البناية، ينظف أظافره بسكين مطبخ.فقال:- “هذا فقط لأنها حامل.”
“الكلبة”إسم الرواية الصادرة عن دار الرافدين ترجمة احمد محسن،تتماهى مع صورة غلافها لامراة بنصف رأس كلبة.
دامايس تلك المرأة المهمومة بالامومة التي حُرمت منها، تقارب زوجها روخيلو او تُبعدُه وفقاً لتوهماتها بمعجزة إستعانت لتحقيقها بالسحر، وإنصاع هو لرغباتها قبل ان يصابا باليأس وينعزلا كلٌ في غرفته.
“كان “روخيليو” رجلاً أسود ضخماً مفتول العضلات،له وجه غاضب طوال الوقت.حين اتت “داماريس” بالكلبة ، كان هو بالخارج ينظف محرك ماكينة تسوية العشب.لم يلتفت حتى لتحيتها.قال: – كلب آخر؟ لا تظني أنني سأتحمل مسؤوليته.”
غلاف كناب ” الكلبة ”
منذ مطلع الرواية لا نحار في نسج العالم الذي يحاصرنا بتفاصيله،طبيعته القاسية،
المنازل مشرعة الابواب،الحرارة تشتد حدالاختناق. ارضيات المنازل غير مسواة، نباتات البامبو سوار المنازل وجدران الاكشاك المحيطة بها.
“ظل البحر هادىء كحمام سباحة لا نهائي ، لكن “داماريس” لم تنخدع ،هي تعلم جيداً جداً ان ذلك البحر هو الحيوان الشرير الذي يبتلع ويبصق الناس.”
وفي تلك الخاتمة المحتومة لثورة غضبها المتفاعل مع كلبتها لجأت “داماريس” للجبل تركت الحبل مشدوداً على رقبة كلبتها الميتة إضطرت لقطعه بعدما عجزت عن فك العقدة، كأنها تلك العقدة شُحنت بكل الغضب الذي حملته على مر سنوات طويلة وهي ترقب بطن كلبتها يكبر بالجراء مرة بعد مرة.تركتها مرمية في الجبل، وليمة لوحوش الليل.ربما لأن البحر يعيد الموتى ولا يبتلعهم، ارادت جريمة بلا اثر.
أخفقت رغم ذلك، الصفحات الأخيرة محمومة، متفجرة بغضب “داماريس” الكامن في عواطف حرمان الامومة.
“موسكا”كانت كلبةصامتة لكنها ولّادة.لطالما حملت” داماريس” الجراء لتوزعها على اهل قريتها لحمايتهم من الوالدة التي التهمت أحدهم.
على حديّ النقيض تقف “داماريس” مقابل “موسكا”، حبل علاقة سرية مجبولة بالتنافس تنمو بينهما لنصل الى تلك الصفحات الاخيرة كنهاية محتومة لذاك الصراع، حيث الحياة للاقوى.
“ذهبت “داماريس” الى المغسل وبدأت في صبِّ الماء على نفسها باستخدام وعاء التوترما.ظلت تحس برائحة البول(بقعة البول التي تجمعت تحت جسد الكلبة وهي تشد الخناق على رقبتها).فركت جسدها بصابون غسل الملابس الأزرق ثم شطفت نفسها.الرائحة لا تختفي.عندها امسكت بمرآة مستطيلة كانت تستخدمها حين تصفف شعرها وتزيل بثورها.أرادت أن ترى إن كانت ستجد في تلك المرآة وجه المرأة التي قطَّعت زوجها، وبدا لها أنها رأت تلك النظرة وأن الناس سيتعرفون عليها ويدركون ما فعلته.بعدها نظرت الى يديها الواسعتين والخشنتين اللتين قتلت بهما كلبة ذات بطن ممتلىء بالجراء…كانت النسور السوداء قد وصلت.”
ربما يرى البعض في النص تفريغاً للانانية الفردية ومبالغات الأنا، لكن القارىء المتتبع للسرد يبقى مشدوداً لبطلة الرواية، لحزنها الذي يتسلل هرباً للبحر حيناً وصراخاً حيناً آخر أو ثورة جامحة تنتهي بجريمة موصوفة، لا يكفي كي يزول اثرها، ان تحلق النسور في الجبل البعيد لنهش الكلب الجيفة.
رواية بما يزيد قليلاً عن المئة صفحة،تركن لعوالم الداخل، لوهم الخلاص بعالم الغيب، لخيال الارتقاء بالكلبة لمصافي البشر، لطبيعة ترتوي من المنبوذين والهاربين والصامتين حد التلاشي في ثنايا الموج او تضاريس الجبال.
تلك الخاتمة الزاخرة بتغليب الكراهية تبدو مستفزة للقارىء وإن مهدت لها الكاتبة بين سطورها، فهي ايضاً تبدو مفهومة في السياق الذي جاء خدمة للسرد منذ أن أبعدت “داماريس” زوجها “روخيليو” عن فراشها وتفرغت لفرك الارضيات وترتيب الخزائن والاكشاك ، وقبل كل ذلك لملاحقة كلبتها قبل أن تتخلص من عبئها بالقتل ، وتتوه.
الكاتبة بيلار كينتانا اختيرت في مهرجان” فيستيفال ” الادبي ضمن قائمة ٣٩ كاتباً وكاتبة عند حافة الاربعين.
نخرج منهكين من متاهات الرواية محملين بالاسئلة وهو اروع ما فيها: أليس العالم اليوم على هذه الصورة ، في إثبات تفوق القوي وإطلاق غرائزه بقتل كل جمال يضاهيه؟.
دلال قنديل
روما
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل