أماكن عامة/الحلقة7 :
باب التبانة
-×-×-×-×-×-
كان شارع سوريا، أعظم شارع في طرابلس. كنا نرى المحال التجارية، كيف تتراصف قرب بعضها. كنا نرى الخانات كيف تتوزع أرباض السوق عند أقدام الجبل الذي يحمل على ظهره محلة القبة العظيمة. كنا نرى الحافلات والشاحنات، كيف تدخل إلى الخانات من أبوابها العريضة. تفرغ بضائعها من كل الأنواع. وخصوصا البقول والخضار والثمار والحبوب. ثم توزع فيما بعد على الأسواق وخصوصا منها: سوق القمح، وسوق الهال، على الكتف الشرقي للنهر. كنا نرى بأعيننا، كيف تدخل العربات التي تجرها البغال، إلى الخانات، تنقل البضائع إلى الأسواق. كان “العربجي” مميزا بحمالته، وبحبله وبالسوط. كان شارع سوريا، في باب التبانة بطرابلس، شارع الأثرياء والأغنياء في المدينة، بلا إستثناء. فليس منهم من ليس له مخزنا تجاريا ضخما، في شارع سوريا بباب التبانة بطرابلس. كان هذا الشارع علامة أهالي المدينة على الثراء. كانوا يقولون لمن يتحدثون عنه بالثراء الفاحش: عنده محل في شارع سوريا.
كانت الزحمة تخنق شارع سوريا، من مفرق طريق الأرز والضنية، حتى طلعة العقبة، وحتى طلعة الكواع. ثم تستدير هناك غربا، لتجتاز الجسر على النهر، وتأخذ الطريق إلى محلة الزاهرية وسوق الدباغة، وخان العسكر، والأسواق، وساحة التل. كانت القبة مسكن تجار باب التبانة الأثرياء.كانت عماراتهم وداراتهم، تطل على الشارع من علو شاهق. كانت بيوتهم وداراتهم وفيلاتهم هناك، أعظم الحارات. ولهذا إنتشرت فيها المدارس والمستشفيات والإرساليات والثكنات. كانت كل هذة الإدارات، تتكئ على شارع سوريا، نهر الذهب. على باب التبانة، باب الذهب. على تجار هذة المحلة العظيمة: عنيت طبقة التجار الأثرياء.
كان شارع سوريا، الشريان الحيوي للمدينة. كانت قوافل الحافلات والشاحنات والسيارات الصغيرة، قد حلت محل القوافل، من الحمير والبغال والجمال. تدخل إلى خانات باب التبانة، وينزل منها التجار والمزارعون والركاب والمسافرون، إلى جميع الجهات من لبنان. إلى فلسطين وسوريا وبلاد حوران. كانت عربات الخيل، تصطف في طلعة العقبة من محلة باب التبانة. ثم تنحدر بهم إلى الزاهرية ومحطة الترام، ومحطة سكك القطار. تشق الطريق، بين جنائن الليمون المحروسة، بالأسيجة العالية، وبأشجار الحور و الصفصاف والزيزفون.
كانت جنائن وبساتين الليمون، وكذلك كروم الزيتون، هي المدخل الشمالي إلى باب التبانة، من شارع سوريا العريض. كان هذا الشارع في المحلة، الحد الفاصل بين جنائن الليمون وكروم الزيتون. بين السهل الساحلي لطرابلس، والجبل الذي يعلوها، حتى جبل تربل العظيم.
كانت حارات طرابلس تنتشر في المحلة. تضم الأغنياء والفقراء. يسكن الأغنياء في العمائر الحجرية والقرميدية. ويسكن الفقراء في التخاشيب، وبيوت التنك. وعند كل صباح، يذهب الأغنياء إلى محالهم، ينهضون بأبوابها. ويذهب الفقراء إلى دوابهم وعرباتهم، ومعاولهم ورفوشهم ومكانسهم، يباشرون أعمالهم حتى المساء. كانت المحال التجارية، تغلق أبوابها عند الظهيرة، ولا تعود لفتحها، إلا عند الساعة الرابعة. كانت هذة الفرصة المدينية البلدية محترمة من الجميع. فرصة تقسيم العمل في الليل وفي النهار. وفرصة تقسيم العمل، بين التجار والعمال.
كانت قوافل الحافلات والشاحنات والسيارات الصغيرة منها والكبيرة، تخرج من اللاذقية وطرطوس وحمص، آتية من أنطاكيا وإدلب وحلب، وبلاد الأناضول، لتؤم باب التبانة وتنزل بضائعها فيها. وكانت كذلك جميع المركبات من كل الأنواع، تخرج من قرى السهل ومن قرى الجبل في عكار والضنية وزغرتا، وزغرتا الزاوية وقضاء بشري، تفرغ ركابها، وتفرغ أحمالها، في باب التبانة، قبل بزوغ شمس الصباح.
كانت باب التبانة، باب الذهب بحق. هي المدخل التاريخي، للداخل إلى لبنان. كانت باب التبانة عنق الزجاجة. فلا يدخل داخل، إلى الساحل او الجبل، إلا وتكون باب التبانة وفنادقها وخاناتها وأسواقها ومعاملها، محطته الأولى في النزول، أو في الصعود أو في المرور.
ترى باب التبانة وقد إنتشرت حولها مصافي التابلاين ومعامل الزجاج، ومعامل الدباغة، ومعامل الحلوايات والسكريات، ومعامل الزيت و الصابون. ومعامل النسيج والحياكة. ترى باب التبانة من شارع سوريا، عروس المحلات في المدينة.
كانت باب التبانة، درة عنق طرابلس. عنق الزجاجة المضاءة،بالليمون والزيتون. تراها بذلك تزين صدر لبنان وصدر فلسطين وصدر سوريا. وحين دكت باب التبانة، دكت عنق الزجاجة على صدر هذي البلاد كلها. فخربت، وخرب معها لبنان. خربت معها جميع بلاد الشام. أما كنا ولا نزال نقول عن طرابلس، إنها طرابلس الشام. طرابلس شارع سوريا. طرابلس باب التبانة، بكل إمتياز.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الكاتب د. قصيّ الحسين