أماكن عامة/ الحلقة 7
القشلق العثماني
-×-×-×-×-
في مكان قهوة التل العليا، بطرابلس اليوم، كان يقوم القشلق العثماني. ربوة من الرمل. بل منقطع من الرمل. بل مجتمع من الرمل متميز، يرتفع زهاء المئتي قدم، عن تل الرمل المحيط به من كل الجهات. يشرف على طرابلس كلها من جميع الجهات. يشرف على منطقة الزاهرية، وجنائن الليمون خلفها، من جهة الشمال. وعن المدينة وأسواقها القديمة وسوق النحاسين وخلفها النهر، من جهة الشرق. وعن السراي العثماني، وساحة الكورة، وساحة النجمة، حتى الكلية الأسلامية وباب الرمل من جهة الجنوب. وعن دار البلدية وجميع الدوائر المالية والعقارية والتربوية حتى حدود شارع عزمي باشا ومنطقة الثقافة وبساتين الليمون إلى البحر، من جهة الغرب.
لا تزال السلالم الحجرية التي تتسلق إلى هذة الربوة العالية من الرمل، من جميع الجهات، تحافظ عليها كمنتجع للعائلات الطرابلسية. ولموظفي الدوائر جميعها، يعتادونها، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، بعد أن رحل العسكر العثماني عنها، وتركها بإدارة الأوقاف الأسلامية، فجعلت معظم منشآتها حولها. وخصصتها كمنتجع سياحي للمدينة.
أجمل ما كان في القشلق العثماني، هي الطريق الدائرية حولها. والتي تم الإعتداء عليها، بعد رحيل النظام العسكري عنها. بحيث كانت هذة الطريق، تؤمن للزائر رؤيا بانورامية للمدينة.
بعد وصول الأتراك العثمانيون إلى طرابلس، ورثوا جميع المرابض والمقار التي كان يتواجد المماليك فيها. فلا يزال يقال، حتى اليوم، إن طرابلس مدينة صليبية. ولا زال يقال حتى اليوم، إن طرابلس مدينة مملوكية ولكن قلما كنا نسمع من أجدادنا، أنهم كانوا يقولون: طرابلس مدينة عثمانية. بإستثناء، بعض التكايا والزوايا. وبإستثناء بعض المساجد والجوامع، وبإستثناء بعض المدارس والمنشآءات، مثل الساعة الحميدية. ومثل السراي العثماني. ومثل الكلية الإسلامية. ومثل بعض الحمامات في أسواق المدينة القديمة. ومثل القشلق العثماني، الذي ظل رابضا لأربعة قرون على أعلى ربوة في وسط المدينة. يسهر على أمنها، من جميع الجهات. يراقب جميع بواباتها. يراقب الداخلين والخارجين منها. ورغم ذلك. ورغم أربعماية عام من الوجود العثماني، ما قال أحد إن طرابلس مدينة عثمانية. ذلك لأنهم لم يخطوا فيها شارعا واحد، غير شارع عزمي باشا، الذي دشن بعد وصول القطار إلى المدينة. فكان يربط بين القشلق العثماني، ومحطة القطار بالأسكلة.
كان القشلق العثماني، عين المدينة الساهرة على أمنها لأربعة قرون متواصلة. لم تعرف المدينة، في تاريخها القديم والحديث، حكما، دام عليها، أطول من مدة حكم العثمانيين فيها. ومع ذلك، ما قال عنها المؤرخون ولا الناس العاديون، إنها مدينة عثمانية. ذلك لأن العثمانيين، كانوا قد ورثوها جاهزة من المماليلك. كما كان المماليك قد ورثوها جاهزة من الصليبيين. ولو عرفت إمارة بني عمار عليها. وحكم الفاطميين فيها. وحده القشلق العثماني، كان ميزة العثمانيين فيها، لقدمه على السراي العثماني، والساعة الحميدية. وشارع عزمي باشا،الذي إستحدثوه لها.
كان العسكر العثماني، بعد تمدده وتمدنه في المدينة، قد جعل من القشلق الذي إختص به، مقهى لعسكره في المدينة. صار منذ ذلك التاريخ يعرف بالمقهى العثماني. كان عبارة عن “كافيتريا” عظيمة للعسكر، يؤمونه من كل قطاعاتهم العسكرية: من القلعة ومن برج السباع. ومن الخانات. ومن مراصد بوابات المدينة. ومن أبراج المراقبة عند مصب النهر، أو عند مدافع الماء في وادي هاب والمرجة ومجليا وجبل تربل. أو عند بوابات بساتين الليمون، بين النهر والبحر. كان القشلق العثماني، فيما بعد، منتجعا عاما للعسكر. مطعمهم ومستراحهم ومقهاهم. ومتنزه عائلاتهم. وإستراحتهم. صار القشلق العثماني فيما بعد ، المقهى العثماني، المميز لعائلاتهم.
كانت الدوائر الحكومية، تنشأ حول الربوة. يتوسطها القشلق العثماني. كانت الحوانيت تستدير حولها. كانت السلالم المرصوفة والموصوفة، تتسلقها. وكانت المدارس و الإرساليات جميعها، تحتف بها. وكانت المدارس الإسلامية والوطنية، والتكايا والزوايا، لها نصيبها في الحارات التي نشأت حولها. فهناك دار للسينما. وهناك مسرح الإنجا. وهنالك المدرسة المارونية. وكذلك التكايا والزوايا الصوفية. ولا ننسى الجامع العثماني الذي كان يتوسطها، قبالة بركة الوضوء، التي سرعان ما ألحقت بالمقهى العثماني. وصار المتنزهون في معزل عن قسم العائلات. ينظرون إلى المتنزهات، من خلف الفواصل والحواصل. وصارت البركة للأركيلة. وفوقها العرائش التي تظلل جميع الباحات والساحات المنفرجات. بالإضافة إلى أشجار الخرنوب الظليلة.
حقا كانت المدينة في أمان وسلام، تحت عيون القشلق العثماني، من مغاور الحرامية في القبة، حتى قراصنة البحر في فم النهر. كان القشلق العثماني، من ذكريات المدينة الآمنة على نفسها، من ربوة القشلق العثماني، والربيئة من العسكر وحراس المدينة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين