” سيف جدي وحماره” / الجزء (1)
حكاية ( السيف والصدأ..)
بقلم: د. بسّــــام بـلاّن
-×-×-×-×-
أول مرة أمسكت سلاحاً حقيقياً بيدي، كان عمري حوالي السبع سنوات. وكان هذا السلاح سيف جدي أبو خليل الذي غَنِمَهُ من جندي فرنسي تعارك معه وجهاً لوجه في إحدى المعارك التي خاضها الثوار ضد الاحتلال الفرنسي إبان الثورة السورية الكبرى عام 1925، وعلى ما أذكر معركة “الكَفِر”.
ولم يكن لقائي وحملي السيف مصادفة، وإنما بعد إلحاحٍ مني على المرحوم جدي الذي لطالما حدثني عن معارك الثوار وبطولاتهم والسيف والمنظار والفرس التي غنمها من المعارك. أما المنظار فقل لي إنه لا يعرف له طريق بعد أن أخذه أحد أبنائه.. والفرس وضعها في خدمة الثورة والثوار آنذاك، وبقي محتفظاً بالسيف.
كان يخبئ السيف “تحت سابع أرض”؛ ليس بالمعنى الحرفي للكلمة ولكن في مكان لا يخطر ببال أحد. وعندما ألححت عليه لأيام كي يرُيني اياه، طلب مني الخروج من مضافته القديمة، وأغلق الباب ليخرجه وكي لا يعرف أحد مكانه.
كان سيفاً بلا غمد، بقبضة محصنّة.. لونه بني ويعلوه بعض الصدأ ولكن رغم ذلك كان مجرد النظر اليه يشيع رهبة في القلب، وكان أثقل كثيراً من أن تقوى يدي الغضّة على حمله بثقة، وعندما جربت ذلك اضطررت لتنكيسه الى أسفل واسناده على الأرض.
المهم ما أن رأيته والصدأ يعلوه، حتى أبديت سخريتي منه، وقلت لجدي: أهذا هو السيف الذي صدّعت رأسي لسنين وأنت تحدثني عنه.. إنه صدئ ولا يساوي شيئاً.
ضحك “الختيار” بقهقهة من كلامي. وقال لي: أول شي السيف يا جدي مخبأ منذ زمن ولم أستخدمه إلاّ للذكرى والذكريات فقط.. والسيف يا جدي حتماً سيعلوه الصدأ إن لم يُستخدم.. والشيء الثالث والأهم أن هذا الصدأ يا جدي من الخارج فقط، أما قلبه فلا يزال قوياً وضربته بتّارة، فلا تحكم على شكله الخارجي وحسب.
قلت له: لا أصدق أنه ممكن أن يكون قوياً وقاطعاً كما..
قاطعني ضحك مرة أخرى، وقال لي: تعال معي لترى.
واصطحبني معه الى أرض الدار، وثبت بين حجرين ثقيلين قطعة خشب سميكة وضربها به، فشطرها نصفين وأحسست أنا الطفل بوجعها وأنينها، والتفت إليّ وقال: أرأيت يا جدي إنه لايزال بقوته وعنفوانه، رغم ما يبدو عليه من الخارج؟.. ولكن معك حق يا جدي يجب أن أنظفه وأعيد إليه بريقه ولمعانه وأحضر قطعة “برداخ” وراح يحفه إلى أن عاد جديداً. وأحضر قطعة قماش لفه بها وأخرجني مرة أخرى من المضافة وأعاده إلى مخبئه.
…………
وشعوب منطقتنا تشبه سيف جدي، فقد علاها الصدأ وتراكمت على سطوحها الأوساخ بسبب ما مرّ عليها من صعاب وأهوال وامتحانات صعبة، وبسبب ارثها المُثقل بأطنان من تراثٍ لمن يعد صالحاً لهذا الزمن، والمطلوب منها أن تعيد “سنفرة” نفسها لتظهر بما يجعلها تعبّر عن جوهرها ومكنونها.
وللإنسان أينما كان، الملوثات التي يتعرض لها لا تعد ولا تحصى، والمُدخلات الى روحه وعقله باتت أكبر من أن تُستوعب، وهي بيئة خصبة لظهور الصدأ، لذلك عليه تنظيف نفسه باستمرار ليبقى لامعاً كما خلقه الله وأراد له أن يكون .
……….
وأنتِ أيتها القلوب.. مطلوب عمل الكثير والكثير لكي لا يغلفك الصدأ
( الجزء الثاني من سلسلة ” سيف جدي وحماره ” تنشر يوم الإثنين المقبل )
الكانب د. بسّام بلّان
ما أجملَ و اعمقَ ما فاضت به قريحتك ايها الكاتبُ الجميل ، للّه درّك على هذا التنوية دون تلميح ، الى ما وصلت اليه شعوب بلاد الشام والعراق المقهورة بجبروت و قسوة و ظلم حُكّامها و زبانيتهم من الاجهزة الامنية الظالمة ..