“ضمة” لزينب شرف الدين قصص تفرد عذابات العالم بمسرح مفتوح بلا نهايات محتومة.
بقلم الكاتبة والاعلامية : دلال قنديل
-×-×-×-×-
فراشات تحلق قبل أن تحرقها الاضواء، تلك التي تدخلنا في عوالمها المتضاربة زينب شرف الدين في كتابها ” ضمة”.قصص قصيرة لكنها تبدو قصة واحدة.
تتدرج اللغة بين التشبيه والجزر في مسرح متحرك، مفتوح على العالم.لا تحتاج قصصها مقدمات، تلك العوالم الملتهبة، تجارب ممدودة ، تخالف الزمن والتوقيت، لكل منها بيئة وأبطال لا تتناسب مع ما سبقها او يليها، ندور في فلكها بتناسب، ترتفع وتيرة التشويق وقد تنخفض، ولا تلبث ان تعلو بحبكة درامية على غالب القصص.كأنها أرادت ان تفرد في روايتها حكاية واحدة للانسانية الهائمة بين تابوت التعتيم ونسيج المفاهيم.
نطل في أولى الروايات على لحظات وداع الابنة لأمها، لحظات الصمت الثقيل للموت قبل رحيل الام التي نهش جسدها المرض:
” أخذت أمي تبحث عن أبي بيننا، ولما لم تجده بدأت بالصراخ بصوت جهوري يجعلك تشك في انها عجوز تحتضر” يا ابو عدنان امسك يدي، شيلني يا ابو عدنان”…نفخت أمي في روحي آخر نفس من أنفاسها.كرم إلهي فاق ما صليت ودعيت لأجله.كرمٌ فاض على رجائي بألا ترحل من دون ان أمسك بيدها.”
يتردد صدى المعذبين بلا وجوه، لا تجتهد الكاتبة بتكلف الاستفاضة بالتفاصيل.
المسرح بلا ستائر، يوغل في الايحاء دون كثرة ترميز.جمل مختصرة تدلنا على مكمن الخلل في النفوس المقهورة.
الصمت يبدو جلياً في طريق المهمشين.الهوية، المرأة، الذات، العشق، الموت ، الحرب، الامومة، والهجرة نتجرعها على مدار قصص بلامكان وزمان محددين.كأنها حكاية الانسانية جمعاء.
توغل زينب شرف الدين في إزاحة الاقنعة عن شخصياتها، تظهر ان الكامن لا يماشي الظاهر منها.كأنها تمارس هواية نزعها عن وجوههم، تلوي ذراع ضحاياهم قبل أن تُسقطهم صاغرين لا جبابرة.لا مكان للبطولة في ترميزها ولا للنهايات السعيدة.
صراعات لا تنجلي دوافعها او اسبابها، تبرر للضحية إنسحابها بالموت او القهر او الصمت، دون ان تسامح القاتل بكشف بشاعته ، جماعة كان او فرداً على خنق الضحية او دفعها للانتحار.
هكذا نهايات القصص قصيرة، كإلتماعة الحياة المشفوعة بالموت.طريق حتمي ذاك الموت المتأتي من عذابات الطريق .
غلاف كتاب القصص القصبرة لزينب شرف الدين
تضعنا زينب بإسلوب مختصر ، وجمل غير معقدة ، في مناخ يصهرنا داخل بوتقة تنطوي على تناقضات غير مرئية ، تغلي وتغلي الى ان تحين لحظة الانفجار.
قد تكون نهاياتها ليست مقفلة على الموت بالضرورة، لكن شخصياتها ينقصها الفرح.كمن يتلو امام تناقضات كافكا وحشرته التي تطل من ثقوب الرؤية في احدى قصصها، او يحرر أليس من عالمها الضيق ليطلقها في فضاء بلا حدود في قصة اخرى، فتشعل زينب شرف الدين بإسلوب خفي إنفعالاتنا ، نسير معها دون وعي، كأنها تجرنا لمعانقة شخصياتها المعذبة قبل لحظة السقوط الصادمة.
تحضر حكايات زواج القاصرات، المثلية الجنسية، الامومة المنقوصة ،عذابات التشرد، قهر العلاقات السامة والثنائيات غير مكتملة الا بهواجس الفرار من الآخر او اليه.
هكذا يتوالى السرد برسم عالم بتلميحات سريعة لا نكاد نتلمسها حتى نفقد أثرها في شرنقة البحث عن الذات الهائمة قبل ان تسقط صريعة.
في ” ويل الرغبات المشتعلة” تنحو اللغة نحو مسرحة الاحداث بخلاف سياق القصص الاخرى: ” نهارٌ قصير، كانونيٌ بإمتياز.أشبعت السماء فيه التراب مطراً، استفاقت الارض في بيانها، مثل ذئبة، متعطشة لأضاحيها، يثيرها عويل السماء، غيومٌ عانقت بعضها بإحكام، فارشة الاثير بغطاءٍ سميك سدّ كل منافذ الضياء.دُكنةٌ براقة كانت تلمع وتنطفىء في الافق، نشرت بهجةً جامحة يمازجها ارتيابٌ ووجل.لم تكن ماريانا في حاجة الى تغيير ملابسها التي اتقنت اختيارها كي لا تتنافر مع العمل ولكي تتناسب، في آنٍ واحد مع السهرة الموعودة، على ان تُجري عليها بعض التعديلات البسيطة. “
الكاتبة زينب شرف الدين
حبل سرد مشدود حد الانقطاع المحتوم، نقلة بعد نقلة الى مفترق النهايات، يتكشف لماريانا في تلك السهرة الموعودة سر غموض خطيبها. تربطها علاقة عابرة بشاب التقته لمرة واحدة خلال سفرها مع خطيبها ، لتجده بالقرب من خطيبها في سهرة عيد ميلاده الموعودة، كأنه خطط لها أن تراه مع صديقه الحميم ويقحمها في سحر علاقتهما.
هل نحن محكومون ك “ضمة” في نهاية الطريق .قد تكون التسمية عابرة ، اما الرواية فيصحُّ فيها انها تشبه عناق المعذبين ولملمة آثارهم.
بحسب امبرتو ايكو الشيء الصحيح هو ما لا يمكننا شرحه، هو الشيء الذي يكتسب مشروع تأويله المستمر ويتقبّل القراءات المتعددة ولا يتوقف معناه في تعبير لغوي مقفل.
خطوط ورسومات تلاقي مرح الشخصيات وحزنها الطافي، خطوط رفيعة كانها حفرت بقلم رصاص.عناوين القصص خاطفة وجلية، تتوالى بتتابع محيّر تتوسطه “ضمة” مرفقة بصورة السيف لتبعدنا عن العناق المرتجى.
عناوين تختلجها الحيرة ، الفراغ ، العذاب، شهقة الوداع او صرخات الضحية.
” شجرة الفيّ، هدايا مخبأة، ضمّة، ويل الرغبات المشتعلة، نعيٌ مبكر، ذاكرة الماء، تمرين على ارتياد القبور، عشّاقي، مرايا رحمة ،ثقل الغائب وبدر وكريستيان.”
“ضمة” نُشر بمنحة ” صندوق التضامن مع لبنان” منشورات دار الصنوبر ، طبع منه ألف نسخة في بيروت.
إختصرت تقديمه الكاتبة بإهداء مؤثر لشقيقها” أحبك،لأنك أهلٌ لذلك”.
دلال قنديل
ايطاليا
الكاتبة الاعلامية دلال قنديل