التجربة الشعرية للشاعر د.سرجون كرم :
الجذور والغربة
كتب الناقد والمخرج حميد عقبي:
تتعدد أنشطة الشاعر اللبناني د. سرجون فايز كرم، وهو أستاذ في اللغة العربية وآدابها والترجمة في معهد الدراسات الشرقيّة الآسيوية التابع لكلية الفلسفة جامعة بون ألمانيا، وناشر ومدير مشروع الترجمة للشعر العربي الحديث إلى اللغة الألمانية في ألمانيا وله أربعة دواوين شعرية.
كل نص وقصيدة للشاعر سرجون كرم، نُحسّها استكشافا وحفراً في ذات الشاعر الذي لا ينسى وطنه وتأتي أسماء المدن وخاصة مدينة بيروت في الكثير من قصائده وقد يصور لنا الشاعر مشاهداً من هنا حيث يقيم لهناك البعيد، فنشعر بالرجفة وكأنه يعيش هناك اللحظة واللحظة ومعاناة وألم من هم هناك، يسأل أكثر مما يجيب ويرسم لوحات ثم يطمسها أو يطمس جزءاً منها عمداً، في واقعٍ يموج كل لحظة كيوم القيامة , ليس من السهل تحليله ولا بيع الوهم بثياب الحلم.
سوف أخذ نموذج قصيدة بيروت
وإليكم النص:
بيروت
الغربان تتداعى إلى الاجتماع
فتتداعى فيه.
في يدي البرهان
حين يخرج ظلّي في مظاهرة خلفي
كي يمسك يديك فوق علبة سجائري
تشعلان لينطفئ الكون
فأرى…
في بيروت
أحبّ الناس وأكره جثّة القصيدة
التي تفوح بي ومنّي،
وأصلّي أن يعود الله غدًا من حيث جاء
وثغره الباسم
وردة ملء يديه.
في بيروت
الجندب على خطّ الاستواء…
والقلب “يَتَبَوصَلُ” جنوبًا أو شمالاً…
شيء ما يندلع في مكان ما
وبيروت مدينة الشعر اليبابْ
تبرش لحم رجليها ببطولات من فتحوا أبواب السّراب
لا التّراب
وغابوا.
في البلاد التي يعمل ثلاثة أرباع سكّانها أحذيةً
ينتعلها رجال المخابرات
لا تولدُ قصيدة…
ولا يُسمّى بدرًا
هذا القمر المكتَمِل.
يا ماروشكا…
موردخاي سيذهب في رحلة
ولن يأتي
في هذه الحياة
القصيرة حين يتشابه ناسُها
والطويلة حين لا أشبه أحدًا
سواي.
ففي بيروت تعمل المخيّلة حجر رحى
يطحن الدروبَ إلى جنّة
لا مومس فيها نعتليها
ولا نبيّ يعتلينا
ولا إله نتّقيه.
الشاعر سرجون فايز كرم
يخلق الشاعر سرجون كرم صورته الخاصة ويعبث بتركيباتها
بيروت في مخيلتنا كعرب هي أيقونة جمالية فريدة وهنا ومن اللحظة الأولى يصدمنا الشاعر ببيروت ليس بيروتنا وليست مدينته بيروت التي يعرفها ويعشقها ويتغنى فيها، كمن يفيق من غيبوبة أو سبات عميق ثم يصحو، ليجد السماء ليست السماء والأرض ليست الأرض، كمن يهمس فينا محذراً ومتسائلاً، هاهي الغربان تتداعى إلى الاجتماع وكأنه يشعرُ ويسمع نعيقها وصراخها وشبقها لتهجم وتتلذذ بوجبة ساحرة وكأن هذه الغربان طالت انتظاراتها وطال تربصها، بيروت الروح التي لا تنكسر، فهل بمقدورها تجاوز هذه المحن المفجعة.
القصيدة ليست نشرة أخبار ولا تصويراً بكائياً للواقع بل تحولات وجدانية لشاعرٍ، يرى الشعر أكثر من مجرد دغدغة عواطفنا، يقدم الشاعر صوراً عبر تداولات دلالية، ينسجها من روحه ولا يأبه بالزخرفات والتلوينات المصطنعة، فهو يعلم أنها ستزول سريعاً وقد تشوه نصه، الشاعر يزج بنا من مشهد سماوي كما في الصورة الأولى أو لنقل اللقطة الأولى إلى مشهدٍ أرضي:
في يدي البرهان
حين يخرج ظلّي في مظاهرة خلفي
كي يمسك يديك فوق علبة سجائري
تشعلان لينطفئ الكون
فأرى…
المشهد الأرضي لا يقل رعباً عن المشهد السماوي، كأننا مع هلوسات مفجعة وغير منتظرة، لا يُكابر الشاعر ليقول أنه بخير وأنه على ما يرام في ظل تحولات جنونية تحدث لمدينته، ينشق عنه ظله أو يخرج فالجملة الشعرية تفتح شهيتنا للتأمل والتأويل وفهم هذه الصور المحبوكة مونتاجياً، فأرى…، جاءت نهاية المشهد وليست في أوله وكأنه يستمتع ويريدنا أن نرى نحن ونتذوق.
كي يمسك يديك فوق علبة سجائري
الظل يصبح الفاعل وهنا يمسك يديك أي يدها، فهل يعني بيروت أم الحبيبة؟
لينطفئ الكون..فما الذي يشعلانه؟
بعيداً عن تكرارات نمطية أو صور منقولة من هنا أو هناك، يخلق الشاعر سرجون كرم صورته الخاصة ويعبث بتركيباتها كي لا تولد حكايات ساذجة، لا يبحث عن المنطق ولا التسلل الدرامي، هو البعيد جغرافيا ويشاهد ويصور أو يُطلق روحه لتفعل ذلك وكأنها أشفقت عليه فصورت وأخفت وحذفت.
في بيروت وكل مدننا المنكوبة، ينادي الشاعر بالحبِّ وهنا يقول أنه في بيروت يحبُّ الناس ويكره جثّة القصيدة ونحن هنا مع مفردات ومسميات يصوغها الشاعر وقد لا نكون ننتظرها، وهنا يرجع ويعود بنا إلى السماءِ باحثاً عن الله، الله الذي تنتظره كل مدننا المكوبة والحزينة وهنا المطلب أن يعود بسرعة وألا يتأخر عن غداً، ليس أن يعود بأكياس الخبز، الشاعر هنا كطفلٍ قد يضحك جائعاً، المهم أن يبتسم الرب وتمتلئ يديه بوردة، هنا لم يحدد لونها ولا عطرها ولا نوعها.
مدننا المنكوبة تريد سلاماً وحباً وجمالاً، تريد قداسة للحياة، كل حياة ولن ينفعها ديباجات وخطب الساسة ووعودهم، ليفعلها الله وبوردة مقدسة واحدة وكأن هنا رد على المشهد الذي قبله حيث انطفأ الكون، فالوردة تكفي لنورانية البشر والحجر، وكذلك على المشهد الذي يلي هذا المشهد.
عندما نتأمل هندسة المشهد في قصيدة الشاعر سرجون، سنجد خاصية سرجون وليس غيره وقد تكون ثمة أبنية غرائبية وقد يعود بنا بطرق غير مباشرة لمشهد سابق , وبطبيعة الحال لا يمكننا مطالبة أي شاعرٍ بتوضيح وشرح اضافي بعد أن ينهي نسيجه الشعري والقليل جداً من الشعراء يزيدون ويعيدون ويوضحون ويتحدثون عن معاني رموزهم وقد يكون ضرر هذا الشرح أكثر من نفعه وحتى ما يقوله الناقد فهو غير ملزم للشاعر والقصيدة ذات الأغوار العميقة هي القصيدة الحقيقية، فالشعر ليس كشف المشاعر وتصويرها والبوح بها وهو أبعد من حكاية لآنه يتجاوزها وهذا ما يمكن أن نلمسه في شعرية سرجون كرم، فهو يبني ويهدم ويستعير ويراوغ بالألفاظ والبناء ولا يهتم إن لم تتولد موسيقى لفظية ولكن الموسيقى الحقيقية سنشعر بها عندما نعي أو تلامس الصور دواخلنا وفكرنا.
كيمياء القلق والتشظي …في بيروت
الجندب على خطّ الاستواء…
يؤكد دوما شاعرنا على الخطر القديم والجديد الذي يهدد مدينته، هنا الجندب وهو حشرة من الحشرات آكلات العشب أي آكلات الخضرة والألوان وكأن الجندب يضع بيروت وكل مدننا التى كانت سعيدة وبهيجة على خط الاستواء أو يصليها بلهيب حار ويأكل خضرتها وفرحها، القلب يتبوصل ! وهنا يبتدع ويبتكر سرجون مفرداته، يبحث ويغترف من كيمياء القلق والتشظي والخوف على مدينته وهي بيروت مدينة الشعر اليبابْ، لن تفقد بيروت خصوبتها وعليها أن تقاوم التصحر، وهي تبرش وترش لحم رجليها لمن لا يستحقها، كأنها تُغتصب، تحترق، صرخة مؤلمة وغضب.
لا يُمكن لشاعرٍ حقيقي أن يداهن في مثل هذا الوقت العصيب، كأن حمم الغضب تراكمت بدواخل الشاعر ثم قذفها بقوة
في البلاد التي يعمل ثلاثة أرباع سكّانها أحذيةً
ينتعلها رجال المخابرات
لا تولدُ قصيدة…
ولا يُسمّى بدرًا
هذا القمر المكتَمِل.
عندما لا تُولد القصيدة يولد القبح
في هذا المشهد، ينتقد الحال، اللاعدالة، الفوضى وغياب الأمل والمستفيد الوحيد شلة صغيرة، تزرع الخوف وتنميه ووضع بيروت يتشابه مع وضع الكثير من المدن العربية تعيش تحت قبضة رجال المخابرات، عندما لا تولد القصيدة، تولد القباحة ونفقد الأحساس بجمال كل ما هو جميل ونقي وبديع، وحتى يعود تذوقنا سليماً فعلينا أن نحرر أرواحنا وعقولنا ونحطم الأصفاد والقيود ونكسر حواجز الخوف والخنوع.
خاتمة
الشاعر د. سرجون كرم ، يظهر أنه استفاد كثيرا من نشاطه البديع في الترجمة ولكنه يعود أحياناً لمصطلحات وكلمات بيروتية خالصة فهو لا يتعالى على جذوره ولا ينتزعها ويتخلى عنها ويظل في الكثير من القصائد يستعيد صوراً طفولية أو حلم مراهق أو أمنيات رجل، بيروت هي الحبيبة والقصيدة والحلم وهي القلق والقلق، هنا يأتي من هذه التحديات والمؤامرات البشعة التي تحيط بها وبيروت تصبح رمزاً لبقية المدن المتعبة والجائعة وإذا ضحكت وتلونت وغنت بيروت، تزدهر مدننا التواقة للحلم والكرامة والمحبة.
قد يكسر سرجون كرم تقاليد وحتى بنيته الشعرية والتي لا يؤسسها على تقليد أو نظرية جمالية ليخلق البهجة أو يثير الأعجاب ولكنه دائم البحث وتجريب مفردات خاصة ولا يأبه برؤيتنا للبناء فقد نراه بالبداية غريباً لكننا بقراءة ثانية أو بقراءة تأملية صافية سندرك الجمال الحقيقي الخالي من الأصباغ الشكلية المزيفة.
تكفي قراءة قصيدة واحدة لسرجون فايز كرم وهي كفيلة بتحفيزنا إلى البحث عما يكتبه ومحاولة فهم عالمه الإبداعي المشحون بالغربة والبعد وقد اختار وأستقر في المانيا وبالذات مدينة بون والتي تبدو لها معزة خاصة ومع ذلك قد يهمس أو يصرخ بأنه يعاني الوحدة والغربة وربما أيضاً يستغل غربته لينظر إلى مدينته بيروت من منظار الغربة والوحدة وتكون الرؤية واضحة وصادقة.
الناقد والمخرج حميد عقبي