السبت الثقافي في” ميزان الزمان ” :
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل تقرأ ترجمة د. مارلين كنعان لمخطوطة القديسين برلام ويواصف : قالب روائي فلسفي لا يتعارض مع الدين ..
-×-×-×-×-
كتبت الاعلامية دلال قنديل :
” الثقافة تعني تحول الكائن من مجرد الوجود الطبيعي إلى الوعي بهذا الوجود” يحضرني هذا القول للمفكر المتنور الراحل الدكتور نصر حامد ابوزيد وأنا أطالع توضيحاً للباحثة الاكاديمية الدكتورة مارلين كنعان رداً على تساؤلاتي حول تدقيقها وترجمتها لمخطوطة تاريخية نقلتها من العربية الى الفرنسية.
كل نور يخرج من البلد المنهار مصدر انبهار.
فكيف ببحث يكاد يكون فردياً إستغرق العمل فيه عشر سنوات!!
لولا تلك الحوافز الداخلية العميقة للمعرفة لما تراكمت التجارب على مر العصور.
الدكتورة مارلين كنعان وهي متخصصة بفلسفة الدين وبالفلسفة الفرنسية الحديثة ولها اهتمامات بكتابات آباء الكنيسة وعلاقة نصوصهم بالفلسفة اليونانية وبالأدب المسيحي المنحول وسيّر القديسين تقول:
“أردت أولاً أن اكشف عن نصوص غير منشورة تتداخل فيها الأديان والحضارات في مثاقفة حلوة.”
“نواة هذه المخطوطات كلها سيرة قدّيسَين هما برلام ويواصف في قالب روائيّ، مما جعلها أول وأشهر رواية مسيحية، وقد انتقلَت مُعدَّلَةً إلى ثقافات وحضارات أخرى فتكيّفَت معها. تتحدث عن قصّة اهتداء أمير يدعى يواصف إلى المسيحيّة، على يد راهب قدّيس يدعى برلام.
لفتتني هذه الرواية لأنها ترجمت إلى عدد كبير من اللغات منذ نهاية القرن الحادي عشر، ولأنها تشبه إلى حَدٍّ بعيد سيرة بوذا. ولأنها عَرفت في القرون الوسطى انتشارًا واسعًا في كل العالم منذ القرن العاشر ميلادي، فنسخت وقُرِئَت بكثرة من قبل عددٍ كبيرٍ من الآباء والرهبان، ولأنها تُبيّن على طريقتها تداخل الحضارات والأديان.
اكتشفت ان النص المنسوب خطأً إلى يوحنا الدمشقي هو من أصل هندي يروي سيرة الأمير سيداهارتا غوتاما أو بوذا. أُضيف إليه لاحقًا مقاطع واستشهادات من الكتاب المقدّس، ومن سِيَر بعض القدّيسين، ومن النصوص الآبائيّة، إلى جانب عددٍ كبير من القصص والأمثلة التعليميّة على غرار كليلة ودمنة، ومقتطفات من كتابات عديدة كنصٍّ فلسفيٍّ دفاعيٍّ للفيلسوف الأثينائيّ مارسيانوس أريستيدس وجّهه للأمبراطور هادريانوس في القرن الثاني للميلاد.
الباحثة د. مارلين كنعان
درست كيف وصلت هذه الرواية الهنديّة البوذيّة إلى المسيحية. اكتشفت انها دخلت اولاً في التراث الفارسي ومن ثم في التراث الإسلامي في القرن 8 مع اهتمّام العرب المسلمين بترجمة عدد من المؤلّفات الهنديّة، والفارسيّة، واليونانية، إلى اللّغة العربيّة.
في الإسلام كتاب بلاور وبوذاسف هو العنوان الذي أعطي للاقتباس العربيّ الإسلاميّ لسيرة بوذا التي وضعها المانويون باللغة الفارسية بعد أن كُيّفَت مع متطلبات وعقائد الدين الإسلاميّ( المذهب الشيعي)…
درست كيف وصلت الى المسيحية عبر ترجمتها الى الكرجية واليونانية واللاتينية ودرست خصائص النسخة العربية للرواية التي أيضًا دخلت في التراث اليهودي. البحث تناول هوية المؤلف والمترجم والنساخ واللغة والأمثال، والتعليم الديني وترجمات الكتاب المقدس إلى اللغة العربية، الخ.كل الأديان لها أصول مشتركة وتنهل من بعضها البعض”.
وتوضح” إننصوصاً عديدة في التراث العربي المسيحي المخطوطة غير منشورة ترتبط بهذه الموضوعات.”
اما كيف عثرت على المخطوطة الفريدة وانكبت على متابعة البحث بشأنها فتضيف :”كان اكتشاف مخطوطة برلام ويواصف من خلال التحضير لمؤتمر عالمي يتناول الدراسات العربية المسيحية.
بدأت أولاً بدراستها بهدف نشر مقالة. ثم قرّرت تحقيق النص ودراسته وترجمته إلى الفرنسية، على الرغم من صعوبات البحث الجامعي الرصين في لبنان.
أولاً لأن الجامعات ترهق الأساتذة بعدد ساعات التعليم ولأن شراء الكتب والوصول إلى المخطوطات أصبح مكلفًا. مع ذلك قررت المتابعة… استغرق البحث فترة عشر سنوات دون تفرّغ كامل. كنت أتكل على نفسي دون مساعدة من احد، بإستثناء مساهمةأحد طلابي وهو الأب الحارث ابراهيم ساعد في تحقيق النص من خلال تحضيره لرسالة الماجستير تحت إشرافي”.
البحث امتد من لبنان الى باريس ومكتبات عالمية اخرى تقول :”اكتشفت وجود مخطوطات كثيرة لبرلام ويواصف في خزائن المكتبات الجامعية المحليّة والعالميّة، كالمكتبة الوطنية الفرنسيّة، ومكتبة بودليّان في جامعة أكسفورد، ومكتبة الفاتيكان، ومكتبة دير القديسة كاترينا في سيناء، والمكتبة الشرقيّة للآباء اليسوعييّن في بيروت، وفي مكتبات بعض أديرة أورشليم، وحلب، وحمص، وصيدنايا، الخ. استّعنت في إحصائها وتجميعها بفهارس المخطوطات العربيّة.
عثرت على ست وأربعين مخطوطة تنقل لنا هذين القديسين بحسب الرواية العربيّة المسيحيّة، يعود بعضها إلى القرنين الثالث عشر والرابع عشر ، وبعضها الآخر إلى القرن الخامس عشر وايضاً السابع عشر أمتداداً حتى القرن الثامن عشر والتاسع عشر.
أقدمها مخطوطةٌ مزخرفةٌ تعود في جزء منها إلى أواخر القرن الثاني عشر أو أوائل القرن الثالث عشر، وإلى القرن السابع عشر في جزئها الثاني، وهي محفوظة في خزانة مخطوطات دير سيدة البلمند البطريركيّ في لبنان.”
صفحة من مخطوطة برلام ويواصف
“الرواية العربيّة المسيحيّة، كما تتبدّى في مخطوطة البلمند وفي المخطوطات العربيّة المسيحية الأخرى، هي روايةٌ مترجمة عن النصّ اليونانيّ… أما اللغة العربيّة المعتمَدة فيها، فهي العربيّة الوسطى أي تلك التي تخلط بين اللغة الفصحى وبين التعابير والمفردات المحكيّة، فضلاً عن استعمال كلمات يونانيّة دون تعريبها والاكتفاء بخطّها بالحرف العربيّ كأسماء الآلهة الإغريقية وبعض المصطلحات الأخرى، واستعمال كلمات سريانيّة أو من أصل سريانيّ راجت في الأوساط العربيّة السوريّة، وبالتحديد في أديرة شمال سوريا، مهد هذه المخطوطات”.
هل يتقاطع الحافز الديني مع البحث الفلسفي تقول:
“ليس صحيحًا أن الفلسفة تعارض الدين. كبار الفلاسفة كانوا رهباناً وعلماء دين. في بعض الأحيان شجع الدين البحث العلمي وفي بعض الأحيان عارضه. وكان للأمر علاقة بالسلطة السياسية وفي استعمالها للدين. أحب قول الكندي إن الدين زيادة لطف من الباري تعالى.
صدر الكتاب بنسخته الفرنسية مؤخراً في 744 صفحة عن دار بوشين.و في شهر ايار / مايو المقبل يقام مؤتمر حول برلام ويواصف في جامعة ستراسبورغ في فرنسا ما يجعل الكتاب المصنف اكاديمياً، موضع نقاش واحتفاء بإنجاز بحثي يتحدى الانحدار الذي يعيشه لبنان.
دلال قنديل
ايطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل