أماكن خاصة ( 4 ) / الصيارين
على كتف الجبل الغربي، المقابل لقريتي، وتحديدا فوق النهر، تتمدد الصيارين جنوبا وشمالا. وفوقها طريق زراعية، إلى حقول القاطع الغربي والجبل الغربي، الذي تفصله تلة الشيخ محمد والهضبة الطويلة من بعد، عن القاطع الشرقي والجبل الشرقي.
إنه عبارة عن جلول، تتسع وتضيق، وتضيق وتتسع، وتتلوى، بحسب، ما يمنحها النهر ومعه الطريق، من حرية.
كان من حظ الصيارين، أن تتموضع بين حصارين قديمين، بين حدين قديمين، لا يمكن تجاوزهما: النهر الذي إذا ما غضب، صعدت جحافله إلى الصيارين. ينهش ترابها، مثل ذئب ينهش النعاج الدانية من القطيع. والطريق الزراعية، التي عبدتها أقدام الفلاحين، ووشمتها أرواث المواشي، ورسمتها الحوافر ووسمتها الأظلاف. تتلوى بين الأودية حيث أوراق التاريخ. تحاذي الصيارين من أولها إلى آخرها، حين تنتهي إلى الطريق القديمة، التي تصل القرى و الحقول بين القاطع الشرقي، و القاطع الغربي. حيث يربض فوقها الجبل الغربي، الذي يتمدد على ظهره، قبالة القرى، كسيد فحل عظيم. يغفو على أذرعة الوديان والبطاح، بطول تلك البلاد، يتأمل السماء فوقه وينظم قصائد الغزل بالثريا، بالنجيمات. وينظر إلى شقيقه الجبل الشرقي، الذي إنشق منه في يوم من الأيام. يساهره. يغازله. يناجيه. يسامره. يبوح له بأسراره. ينفثها له رسائل مع الغيمات العابرة، القادمة من ناحية البحر.
الجبل الغربي بحجارته البركانية السوداء،وتربته المحروقة الحمراء. والجبل الشرقي، بحجارته الكلسية البيضاء، وتربته الهجينة، بين الأسود والأبيض. وبينهما البساتين والحقول والقرى. وبينهما كذلك، الدروب التي تصل الحبيب إلى الحبيب.
تراني، قد قطعت عهد طفولتي كلها، في الصيارين. أجيب أن نعم. كنت أذهب إليها مع السحر، و فجر كل يوم، قبل الذهاب إلى المدرسة. أستيقظ في السحر البقرة السوداء. والبقرة الحمراء والعجول الصغيرة، تستيقظ هي أيضا في السحر. تخور من الجوع. يعظم خوارها. تريد أن تتسحر. أهرع إلى حقيبتي المدرسية. أضعها على ظهري. أطلق الحرية لحماري. أحل له العقال من مربطه. وأفتح باب الزريبة، فيخرج الأحباء. أملس على ظهور الأحبة. واحدا واحدا. فتندفع أمامي.
أخرج على حماري، بصحبة الحارس الأمين، الكلب الموشى بالسواد وبالبياض يلوح لي بذيله. نأخذ طريقنا إلى الصيارين، في الدرب المتعرجة بين الحقول والبساتين. نجتاز النهر في السحر، قبيل حلكة الفجر بقليل. ثم نحاذيه بين أشجار الدلب والأسيجة والأشواك التي تعلق بصحبي لضيق الطريق. حتى إذا ما وصلنا إلى جورة الجوز و المشمش، عرف الأحبة أين يكون مجتمع الحشيش والنفل على الحوافي المختبئة خلف الصخور والحوائط وصفوف الطيون وشجيرات القندول.
يشق الفجر باكرا طريقه إلى الصيارين. كنت أرى كيف تنهض الأشجار العالية من نومها لتسلم عليه، مثل سيدات المنازل، حين يؤم الضيفان بيتها. كنت أرى بعيني، كيف تتراقص أغصانها فرح وترحيبا. تهزج لنا. تعزف. تطرب، مثل سائر السيدات الكريمات النجيبات، بنات الأصول.
ثم ترتفع الشمس قليلا. فلا تلبث أن تستيقظ الشجيرات الصغيرة، على عجقة الشحارير والسنانير والحساسين و هديل الحمام و رفوف الأطيار. كلها تستيقظ تباعا، ترحب بسيد الفجر. بسيد النهر والدرب وبينهما الصيارين، عند أقدام الجبل الغربي، عنيت: الصبح الجميل. آه ما أجمل الصبح في الصيارين.
تطل الغزالة من وراء الجبال، معرسة. تتسلق رؤوس الأشجار. تذهب ترابينها المتمايلة والمتراقصة. تلمع أوراقها الخضراء. وترى خيطانها الذهبية تتشابك، مثل خيوط من ذهب، تكر بنظام دقيق، مثل كرات الصوف الذهبية بيد الصبايا. يغزلن منها كنزة للحبيب.
ترى كيف يتفتح النفل والبنفسج. ترى كيف تتمطى الهندباء. تتثاءب، تريد مثل طفلة مغناج، أن تعود إلى النوم.
ترى قفزات الثعالى. تراى رقصات الثعالب. ترى دورية مموهة متناسقة من بنات آوى، وسائر واوية النهر، تخرج كلها على دفعات من الجحور. داهمتها الشمس في أوكارها. خشيت على نفسها من القنص و الدهس. فرت إلى أعالي الصخور، تختفي وراءها، لصيد ثمين تؤمله. ربما قد تصيبه. قد يقع لها.
تتعالى الشمس فوق الصيارين مسافة إصبعتين أو أقل. تستنهضها باكرا. تضرب بأشعتها الأعالي. ثم تتمهل في نزولها إلى النهر، لتستحم في الجب بمائه العذب، الذي كنا صنعناه لنا. تنزل مثلنا شبه عارية، إلا من أوراق شجر الدلب. تغطي بها محاسنها، تغطي عري وجهها، حتى لا تنفجر عيون الحوافي بها.
أنظر إلى صحبة الدرب، وقد إنتحى كل من أفراد صحبتي في ناحية. يطلب الرزق الحلال. إمتلأت البطون بالنفل. فإذا ما شبعت “خميسة” أنثى ثورنا خميس، شبعت أختها الصغرى. وشبع الصغار والشبع الحمار. وعوى الكلب من الجوع. يحفزني عواء الكلب على جوعه، يحضني. يحملني على العودة إلى المدرسة.
كنت أنتقل بعد وضوح الصبح، من صار إلى صار. من حقل إلى حقل. تماما مثلما أنتقل من درس إلى درس. ومن كتاب إلى كتاب في الحقيبة المدرسية. وكنت إلى ذلك أراجع جميع دروسي على مسامع النهر. وأكتب على حافة الجب، فرض الحساب. وعلى لحف الصخرة في أعلى الصيارين أكتب فرض الإملاء و الإنشاء. أرسم خريطة بلادي. ثم أسبح هناك في الأعالى. أنطلق جيئة وذهابا. لأصبح أوقع في الوصف.
كانت ريح الطيون الناعمة تضرب رئتي. كان ضوع البنفسج، يملأ كبدي. وكانت زهرة الشوك وزيزها الذهبي، لعبتي. وكانت حوافي النفل تلون من قدمي حذائي الأسود. تلون نعلي، فيصير أجمل. وكان رفاقي في المدرسة يعرفونني من حذائي. يقولون لي: كنت بالصيارين مع البقرات. فأنتبه لحالي. أنتبه لعارهم. أتذاكى عليهم ولا أخجل.
ما كنت أحمل زوادة معي. كانت التينة البيضاء تعرفني. تغمز التينة طيبانها السكرية، فتخرج من تحت أغطية أوراقها وتغامزني. وكانت الجوزة الكبيرة، إذا ما رميتها بالعصا، أو رشقتها بحجرين، هرت لي كومة من حبيبات الجوز تكفيني. وكانت العريشة المعربشة على شجرة الدلب فوق النهر، تدني لي أثداءها: من أصابع العروس ومن الجوزاني ومن الرماحي، ومن العنبري.
وكانت شجرة اللوز الحمقاء في الأعالي، تستبقني بحباتها. أجدها تحتها، فألتقطها. أفقشها على حجر عند كعبتها. وإذ أنسى لا أنسى شجرة أم حسين من المشمش. بيني وبينها نسب عتيق. وكرمها لا يمتحن. أما العليقة البيضاء والعليقة الحمراء، فلي منها، من الأكواز، ما يجعل فمي معطرا حتى المساء. وما يجعل شفاهي ملونة طيلة يومي. كانت رفيقة مقعدي في المدرسة، تنظر إليهما بلهفة وشوق، ولا تعرف طعم العليق وعلقمه البري الأحمر والأبيض والأسود عليهما وتحت لساني. فكنت أبوح لها بسري. كما كانت تبوح لي بأسرارها.
طريق العودة إلى البيت، تحتاج لنصف ساعة. أخرج إلى الصيارين مودعا، عند الساعة السابعة والربع كل صباح، قبل جرس المدرسة. أنادي على أصحابي. يساعدني عواء الكلب. يقفز وراء دواب قطيعي. يحثها على الإسراع إلى الدرب. ألكز ظهر حماري. فينساق إمامي أمامي. صارا صارا، من السبعة صيران من الصيارين. من الأعلى إلى الأدنى.
تخرج رائحة الطيون في وداعي. أحمل على ثياب تواقيع الكرم كلها. يبعث تراب الصيارين أمانته في حذائي وفي ثيابي: حصوات صغيرة جدا. وبعض حتحتات التراب. وأما عشب الحفافي، فهي تتولى تلوينه وتوشيحه بالخضرة. لطلما إكتشفت أخيرا، لماذا كنت أهوى الكتابة بالقلم الأخضر، جميع فروضي.
شهدت في الصيارين، على حقول التبغ. كنت أروي الشتلات بدموع الليل. بدموعي. كان الجدول الرقراق ينساب في الحقل مثل الحية الحمقاء. وكان القمر يساهرني حتى الصباح. وكنت أتدفأ على شعلة المصباح، حين تبترد مني دقائقي، ويقشعر مني بدني.
شهدت في الصيارين على حقول العدس. على حقول الكرسنة. كانت تفترش الصيارين كلها مثل لفائف خيام الأعراب في البوادي، هبت عليها الصرصر، فهوت على وجهها في الأرض.
شهدت في الصيارين، على حقول الذرة. رأيت الخيمة منصوبة بينها على أعمدة من الخشب، أضخم من أعمدة القلاع. كنت أمضي بعضا من الليل فيها، أحرس قصبة العرنوس من غاصبها. وفي بعض الجهات، كانت تنتشر فزاعات الطيور، حتى لا تحمل الموسم في حواصلها، إلى الأعشاش في اليوم التالي.
شهدت في الصيارين، على حقول الفول. كان على ملأى النظر. جئت لزيارته مع رفاقي. شوينا العرانيس. شوينا أصابعنا. شوينا أصابع الفول. كانت مجمرتنا من روث المواشي. ندور عليها، يابسة ، فنجمعها. نضرب فيها شعلة الفتيل. ندني منه ورقة العرنوس اليابس، نأخذ الشعلة وندنيها من مجمع الروث اليابس. يتجمر الروث. نلقي بحمولة الفول الأخضر والعرانيس على شواية صنعناها من القضبان. ثم نستريح، نلتقم الشواء. لا يذال طعم العسل في فمي.
شهدت في الصيارين على بيادر القمح. على بيدر الترمس. على بيد الفول. على بيدر العدس والكرسنة. كان النورج يحملني، وأمامي كديش عظيم. يحسن الدوران بلا كلال ولا ملال. وأما حين يرتاح صاحبه، يطلب الراحة له. نصب الشاي من الإبريق في الموقدة: على الخشيبات النحيلات وجمر الروث. نتناول لفائف الجبنة المحمصة ولفائف الزعتر.ثم نعود إلى النورج، نشتوي: تشوينا الشمس.
في الصيارين، أشهد على مصائد السمك في الربيع وأوائل الصيف، قبل أن يجف النهر. قدمت مرة في السحر بصحبة بقرتين وعجلين صغيرين. شق الفجر ثوب الليل. وإذا المصيدة ملأى بالسمك. نزلت إليها. ملأت سلة كبيرة. سألت عن ذلك. قالوا: إنها سمكة عظيمة. لحق بها ذكران السمك. وتبعها أولادها في الليل. فوقع الجميع في مصيدة الصيارين في النهر.
كانت مصيدة الصيارين عظيمة. تدر علينا الأسماك في فصل الربيع. وكانت بيادر الصيارين أعراسنا في الصيف. لطالما، جاءنا الفلاحون لضرب بيادرهم في الصيارين، لهوائه العليل. كان يأخذون القمح ويتركون لنا التبن.
كانت الصيارين كريمة علي. كانت حقا متجرا للبيت. دكانا عظيمة، فيها ما تشاء من المواسم: جميع أنواع الحبوب. وجميع أنوع الثمار. وجميع أنواع البقول. وجميع أنواع الخضار. وحين يفتتح الموسم المدرسي، نبيع عجلا للمختار، ونشتري الكتب ونخيط المراييل. ونغني المواويل. ونسجل في المدرسة.
كانت الصيارين مدرستي، قبل المدرسة بأربع ساعات، وبعد المدرسة بأربع ساعات. كنت حقا، تلميذ مدرستين. مدرسة القرية الإبتدائية، ومدرسة الصيارين.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين