أماكن خاصة (3) :
المغراقة
أتحدث عن حقل عظيم محايد، بين منتهى أراضي شدرا، لجهة الشمال- الشرقي، وبين مبتدا حقول البقيعة، لجهة الجنوب الشرقي. حقل عظيم على إمتداد النظر، عرف بالمغراقة، لأنها غريقة النهرين: نهر شدرا ونهر الصفا وينابيع الجنيات التي تفور من أعلى تل التين. تحاذي الطريق العامة إلى البقيعة. وقبالتها العمارة، التي تدل على الإتجاه شرقا، ألى وادي خالد العظيم. والمقيبلة والمشيرفة وجسر الشيخ محي الدين.
يحرس المغراقة، حصن قديم، بني على تل التين. تل عظيم، تهدمت أجزاؤه وأقسامه، على مر السنين. يرتفع زهاء المئة متر عن المغراقة. وفي أعلاه ينابيع الجنيات الفوارة العظيمة. تل مشرف على دنيا الحقول كلها. وينابيعه تغسل وجه المغراقة كل صباح. فهي إذن، ملتقى المثلث المائي.
حيرت الينابيع الفوارة في تل التين الناس. كيف تنبع من رأس التل، لا من سفوحه. قالوا، إن القدماء جروا إلى التل الماء، حين كان حصنا، من نبع الصفا. وقالوا أيضا: إنه نبع مسحور، محروس طائش في عدة ينابيع. غير أن هذة الهضبة الصغيرة، المشرفة على المغراقة، ظلت علامة فارقة فوقها. فالناس كانوا يستهدون بتل التين من بعيد. ويقصدونها للنزهات، وتمضية الأيام والأسابيع، بين حوافي المغراقة المائية وتل التين، لأن البركة القديمة، كانت قد حلت فيها، منذ أول دهرها. ولأنها تاليا، كانت فضاء عظيما للجمال وللسحر. فكانت لذلك، تؤم للتبريك.
كنت دون السابعة، حين حلمت بالوصول إليها. لكثرة ما كنت أسمع بترداد إسمها. كنت أظنها أرض المعجزات. ولم أتبين الأمر، إلا حين وقع ناظري عليها، وأنا في الثامنة من عمري.
كان ذلك، حين رافقت والدي إلى حمص. كنت وراءه على ظهر الحمار، وهو في طريقه إلى البقيعة. وحين أطل علينا تل التين من بعيد، سألته عن المغراقة، فقال لي بإختصار شديد: تحت التل.
ظللت أردد هذة الكلمة في نفسي، حتى وصلنا قبالتها. وحين وصلنا إلى المفرق الذي يصل إليها، إنحرف الحمار نحوها. كان يعتادها منذ زمان بعيد. فشددنا وجهته إلى الطريق العام. تلفت قلبي لها. كانت لهفتي، أعظم من إن توصف بالكلمات.
الله. صرخت في سري. ما هذا الحقل العظيم. كان الطقس ربيعيا بإمتياز. وكان موسم اللوبيا واعدا. كنت أنظر إلى صفوف طويلة من القصب، عرشت عليها شجيرات اللوبيا. كنت أحسبها قد أخذت من غيطان القصب التي تنمو حول الغدران والسواقي والمروج. كان الأمر كذلك حقا، حين سألت والدي عن سرها، والحمار يتهادى بنا على مهل. فعرفت بعد ذلك مصدر قصب الرعيان ومزاميرهم، التي يعزفون عليها، حيث ينتشرون على التل مع القطعان.
هي المرة الأولى التي رأيت فيها المغراقة، وقد غرز في صدرها أكثر من ألف عود من القصب. كيف كانت تتحمل، تلك الصبية الجميلة، كل هاتيك النبال من سهام القصب. بل كل سكاكين القصب. كل شفرات القصب . كل عيون القصب، التي تنخر القلب.
جداول الماء، كانت تجري تحتها. تروي شجيرات هذة الغابة العذبة، من اللوبيا الذي يعربش صعودا، على القصب. تتدلى القرون منها، مثل قرون العروس المجدلة. وأما الأرض، فقد فرشت بسجادة خضراء من شتيلات الكوسا. كما من شتيلات الخيار.
كنا كلما إبتعدنا عن المغراقة، أعود بنظري إليها، فأراها أجمل، حتى إختفت عن ناظري، حين تجاوز الحمار بنا العمارة وخط القطار إلى وادي خالد. وصرنا وجها لوجه، أمام سهل البقيعة، في طريقنا إلى الخط. نعبر جسر القمار. نركب بوسطة تلكلخ من هناك إلى حمص.
أيقظتني المغراقة على جمالها. أسررت بذلك لنفسي. صرت أنتهز فرصة أخرى للوصول إليها، وهي على مبعدة تنهاز الكيلومترات الخمس.
تحقق لي ذلك، حين خرجت مع الفجر بخروفين صغيرين إلى حقل قريب كما العادة. حولت وجهتي. وعزمت السير بهما إلى المغراقة عند بزوغ الفجر. لم أتهيب ولم أتردد. كنت بعد ساعة، أرتاح لرؤيتها، قبل أن أصل إليها من المفرق.
أسندت ظهري إلى الصخرة العظيمة، التي كانت معروفة بحارس المغراقة. كانت تنتصب أمامها كفارس عظيم. سرحت النعجتين، ترعيان حولي من البقول الطازجة، وأنا أشبع نظري بهذا الوجه العظيم من الأرض.
كانت حقلة عظيمة من شجيرات البامية. لم تتفتح أجراسها بعد. كنت مأخوذا ولا أزال بهذا المحيط العظيم من الحسن. كنت حقا، غريق حسن المغراقة. ولا زال يهاتفني هذا الحسن، هذا المنام الجميل، حتى اليوم.
تقدمت من المغراقة لأسلم عليها بنعجتي. لامست شتيلات البامية برفق. تعرفت على السماء الصاحية فوقي. تعرفت على الغيمات فوقها. تلك التي تعبر بأسرارها. شققت الدرب مثل يسوع صغير. كنت أعفر قدمي قصدا بترابها. شممت الماء من مجتمعه في المغراقة. كان ينصب نحوي من ثلاث جهات. كنت أسير سحره. كنت أسير سره. كان يكركر أسراراه في أذني وفي قلبي كثرثرة الجداول تملأ آذان الحصوات بضحك الأولاد.
صعدت إلى تل التين. يا للهول!. ما هذا السحر القديم في التل. لماذا كل هذة الغرف المنكبة على ذقونها. من أتى بهذة الأجبل من الحجارة إلى هنا. كهوف صغيرة حولي في تل التين. كأنها أشداق ذئاب، تأخرت عن اللحاق بأصحابها. نسيت نفسها هنا في هذا التل المسحور. كأنه فوهة بركان صغير للمغراقة. كأنه فم دهري. فم دعوي لها. لا يفتأ يدعو لها رب السماء.
كانت شمس الظهيرة، قد وصلت. أسدلت علينا أشعتها. أدفأت قلوبنا، التي كانت ترتجف من شدة السحر. من شدة الحسن. من شدة الجمال. أضاء وجه المغراقة، وأنا فوقها، كأني على هودجها. رأيت من بعيد كوكبة صغيرة من الخيل تشق درب المغراقة. كان فوقها ثلة من رجال الجمارك. وصلوا إلى ما إعتادوا الوصول إليه من مكمن الرصد، الذي يشرف على دنيا سهل البقيعة. وعلى الطريق العام، والطرقات المتفرعة. وعلى سكة الحديد. وعلى موقف القطار والأتوماتريس من بعيد. وعلى الطريق المؤدية من هناك إلى الحدود.
كانوا أربعة من رجال الجمارك على أحصنتهم. نزلوا عن ظهورها. تقدموا بها إلى الينابيع المنبجسة في رأس التل. رووها. كانت الخيل تعب ماءها عبا. ثم ذهب كل واحد منهم بحصانه، إلى التينة التي إعتاد أن يقرن جواده بها.
أربعة من رجال الجمارك، حملوا أغراضهم بأكياس مرتبة، كانت من مصادراتهم اليومية في مخفر البقيعة القريب. علقوا بنادقهم فوقهم، على أغصان شجرة التين الدهرية التي تعودوا النزول تحتها. ثم مضوا يملسون الأرض. يفرشون البسط. يحضرون طعام الظهيرة. خرجت الجفنات العظيمة من الأكياس المرتبة. وخرجت الأصناف العديدة، من علب التونة والسردين والبيض المسلوق. ومن الخضار والفواكه الموسمية. خرجت الكاسات. ثم إنتحوا بمنقل الشواء بعيدا عنهم. وأخذوا يقلبون عليه الأسياخ الطازجة.
علا الدخان. وتعالت الكاسات البيضاء. ولعبت الخمر ملاعبها. وكان الغناء. وكانت الأصوات الجميلة. وكانت الهيصات والنكات. أما أنا فكنت بعيدا أنزوي مع نعجتي، في منحنى آخر من التل. بحيث كنت أراهم ولا يروني.
كانت المغراقة عروسا من الزنج، تنبسط تحت أشعة الشمس التي بلغت صدر السماء، ومالت قليلا إلى الغرب. كنت أشعر بإكتئاب شديد وأنا أغادر المكان. تركته أمانة بين ينابيع الجنيات في رأس التل. يراقب موسم البامية الذي أتيت خصيصا، أسوق نعجتي أليه، لشدة شوقي له. وكان تراب المغراقة، كما ماؤها، كما نداها، يعلق بنعلي.
حملت من شجيرة العليق، في رأس التل زيزا ذهبيا، ربطه بخيط. فكان بين مخصري وساعدي، يحاول أن يعود. يحاول أن يطير إلى المغراقة.
أوجع قلبي، ذلك الزيز الذهبي الذي إعتاد العيش على رؤوس شجيرات العليق، وبين أغصان وأوراق وطيبان شجيرات التين. يطير بين الحين والحين إلى شجيرة بامية. يغمس في قلبها حبه. ثم يطير إلى التلة.
أوجعتني تلك الزيزان التي تسلقتني. تمسكت بي، لأنشد إلى المغراقة. كان الإبتعاد عنها موحشا. كان تبتعد عن نظري، وتغوص كلما إبتعدت … في قلبي. كنت حقا، كما أراني اليوم، غريق زمن المغراقة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
الايام تنقش صورا في ذاكرتنا
كي نقرأها يوما كأننا نشاهد فيلم الحياة
مشاتل غرست فيها بذور من الحقيقة،تنمو فينا لنقطف قمرها دروسا تنضح بالحكمة و النقاء