حكايتي مع إسمي..
بقلم: د. بسّام بلاّن
أول مرة شعرت بـ “فخامة” اسمي ورأيته كما أحب وأريد، كنت في الصف الرابع الابتدائي عندما رأيته مطبوعاً لأول مرة، والمناسبة كانت اصدار الهلال الأحمر السوري “فرع السويداء” منشور على هيئة كتاب فيه أسماء المتبرعين للمنظمة، فقد تبرع والدي رحمه الله بمبلغ 100 ليرة سورية على ما أذكر وتبرع عني بمبلغ 25 ليرة، وتم توزيع الكُرّاس على المتبرعين في الحفل السنوي للمنظمة.
أذكر حينها أنني فتحت الصفحة مئة مرة، لأتأمل اسمي وكيف يبدو مطبوعاً، لأنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أراه فيها هكذا.. فعلى أيامنا كانت كل الوثائق تُطبع فارغة “بترويسات” ثابتة ويتم إضافة الاسماء عليها بخط اليد.. بدءاً من دفتر العائلة وليس انتهاءً بأي وثيقة أخرى حكومية أو غير حكومية.. حتى هويتي الشخصية استلمتها في عمر 14 سنة مكتوبة بخط اليد.. وكذلك الوثائق المدرسية والجامعية انتهاء بجواز السفر الذي أصدرته لأول مرة في العام 1992 على ما أذكر.
الاستثناء الوحيد كانت شهادة قيادة السيارة التي استلمتها مطبوعة حرارياً بحروف نافرة.
أما أول مرة رأيت فيه اسمي مطبوعاً مع شعور عارم بالفخر والإنجاز، كان توقيعاً تحت مقالٍ على احدى صفحات جريدة الجبل المحلية الصادرة في مدينة السويداء، وكنت حينها بالصف التاسع في العام 1981. ولغاية اليوم لا أظن أن لحظة فرح أخرى غمرتني بحجم تلك اللحظة، ولا نشوة تملكتني بمقدار تلك النشوة.
بدأت القصة عندما كتبت ثلاث مقالات أو خواطر أو “خربشات” وجمّلتها ونسقتها وأعدتها مرات ومرات كي لايبقى عليها أي “شخط” أو تصحيح، وحملتها في اليوم التالي بعد انتهاء المدرسة الى مكتب جريدة الجبل، صعدت درج المبنى العتيق في منتصف البلد، لألتقي برجل خمسيني يجلس خلف مكتب.. سألني عن حاجتي؟.. فقلت له وانا أمد الأوراق اليه: كتبت مقالات وأرغب بنشرها في الجريدة إن كان ممكنا. نظر اليّ من الأعلى للأسفل، وأشار الى باب في صدر الغرفة وقال: سلمهم لرئيس التحرير..
دخلت غرفة رئيس التحرير، وكان حينها المرحوم الأستاذ خالد المصري.. رجل طويل القامة أنيق يرتدي بذلة رمادية وربطة عنق وشعر أبيض كثيف، ما أشاع فيّ جواً من الرهبة في حضرته.. نظر اليّ بطرف عينه وسألني ماذا أريد؟.. قلت له أنا اسمي فلان في الصف التاسع بمدرسة “الثورة”، أهوى الكتابة ولديّ نماذج منها أرغب بنشرها في الجريدة إن أمكن ومددت الأوراق اليه..
بالحقيقة كنت في غاية الخوف والارتباك، وتمنيت لحظتها لو أن الأرض تنشق وتبتلعني لتخلصني مما أنا فيه، وأسأل نفسي أيّ فعلٍ أقدمت عليه ولماذا وضعت نفسي في هذه الورطة؟ّ!
وبينما أنا غارق في لجّة أمواج هذه المشاعر، سمعت صوته الجهوري يطلب مني أن أضعها على الطاولة.. رميتها في المكان الذي طلب، قلت له شكراً بصوت مرتجف.. وهرعت هارباً خارج المكتب، وتابعت طريقي الى محل والدي ووجهي ممتقع باللون الأصفر وأوصالي ترتعد.. ولحسن حظي لم يكن والدي موجوداً لحظة وصولي، وهو ما أعفاني من حرج الإجابة على سيل أسئلته.
بعد مُضي أسبوع، وبينما كنّا أنا ووالدي في المحل، دخل علينا أستاذ اللغة العربية والأديب المرحوم فوزي معروف، وهو من أصدقاء والدي وابن ضيعته.. وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما تناول عدد جريدة الجبل الذي كان يضعه تحت ابطه، وقال لي: تفضل يا “أستاذ بسام” اقرأ مقالك المنشور بالجريدة.. وقد جاء موقعه بالمصادفة الى جانب مقالي.. وأشار اليه بأصبعه.
لا أبالغ إن قلت إن كوكب الأرض كله لحظة رؤيتي اسمي وعنوان مقالتي على صفحة الجريدة، كان عاجزاً عن أن يتسع فرحتي ونشوتي.. أحسست وكأنني أشبه بطير فتح جناحيه على اتساعهما وراح يعانق الفضاء نشواناً.. وما زادني نشوة وفرح عبارات التشجيع والاطراء من المرحوم الأستاذ فوزي، وتأكيده لي أنه قرأ في سطوري هوايةً واعدة يجب عدم اهمالها وتنميتها بالقراءة والمطالعة. وقال لي: بيتي مفتوح لك.. عندي مكتبة كبيرة بإمكانك أن تستعير منها الكتاب الذي يعجبك لتقرأه.
وما أن غادر الأستاذ فوزي، حتى قفزت من فوري الى المكتبة واشتريت حوالي 15 نسخة من الجريدة.. كان يتملكني شعور يقترب من اليقين أنني أصبحت مشهوراً؛ فصاحب المكتبة بالتأكيد قرأ مقالي وصار يعرفني، والمارّون في الشارع وسائقو التكسي وسائقو باصات النقل الداخلي وبائعو السندويش والخضار في سوق الحِسبة…
عدنا للبيت، فتحت صفحة الجريدة وركضت بها نحو المرحومة أمي ورفعتها في وجهها لترى ما كتبت.. ونسيت لحظتها أن أمي لاتعرف القراءة ولا الكتابة.. فطلبت مني أن أقرأ لها. ورحت أقرأ مقالتي “العظيمة” وعنوانها “محكمة الضمير” بصوت عالٍ..!
فعلتُ الشيء ذاته مع أخواتي وأخوتي.. ووضعت نسختين أو ثلاث من الجريدة على الطاولة في المضافة ليقرأ مقالتي كل الزوار الذين سيأتون إلينا.. وفي اليوم التالي كنت أول الواصلين الى المدرسة لأخبر أصدقائي وأريهم اسمي ومقالتي، ليُسربوا هذا الانجاز “العظيم” للأساتذة والإدارة والموجهين ومدرب التربية العسكرية…
عشت ساعات فرح ونشوة لا توصف.. ساعاتٌ حملتني على أجنحة الحلم بالغد ومَنْ سأكون وكيف سأعيش حياة الكُتّاب المشاهير في الصحف والمجلات. وكان هذا الحدث بداية اهتمامي بالصحف والمجلات، خاصة أن جريدة الجبل نشرت مقالاتي الثلاث..
أنفضُ غبارَ السنين عن هذه الحكاية اليوم، وأقارنها بزمننا الحالي. حيث صار كل شيء مطبوعاً، والمكتوب بخط اليد من أوراقنا القديمة، صار وثائق تاريخية نحرص على الاحتفاظ بها للذكرى والذاكرة رغم انعدام أهميتها كمستندات بمعنى الكلمة.
أنفض غبار السنين عن هذه الحكاية، لأقارنها بحاضرنا الذي تستعمرُ لحظاته وسائل التواصل الاجتماعي الغارقة بالكُتّاب والأدباء والشاعرات والشعراء والخبراء الاستراتيجيين والمحللين السياسيين والفلاسفة والناصحين والثوريين والوطنيين الذين يملؤون صفحاتها ويضخون فيها على مدار الساعة، دون تدقيق لغوي او إملائي أو قيمي أو أخلاقي في كثير من الأحيان.. وسائل يستطيع كل من هبّ ودبّ الكتابة على صفحاتها ما يشاء وكيفما يشاء دون الرجوع الى مكتب الأستاذ خالد المصري أو نظرائه في الصحف والمجلات.
لا أقصد مما سبق التقليل من أهمية هذه المنابر وإن كانت افتراضية، وإنما التنبيه أولاً لسبب فقداننا متعة ولذة الدهشة في هذا الزمن.. ومن ناحية أخرى التذكير بما نؤكده ونطالب به دائماً بضرورة وضع ضوابط، وليس قيود، ذاتية أولاً وتشريعية على محتوى هذه الوسائط، وبأن يُؤمن جميع “فرسان وفارسات” هذه المنابر بأن الكلمة مسؤولية أخلاقية قبل أي شيء آخر. فإستسهال الحصول على الشيء لايعني أبداً تسطيحه وتتفيهه.
……….
“اسمي مكتوب هِنا؟.. طيّب!!..عادل إمام في مسرحية شاهد ما شفش حاجة”..
د. بسّام بلّان