أماكن خاصة ( الحلقة 2 )
” البستان.. “
تفتحت عيوني على قطعة من السماء، سقطت سهوا على الأرض. كانت عيوني الصغيرة لا تحد حدوده. بين الطريق العام والنهر. كان فاكهة النظر للمارة حين يعبرون من فوقه. يرون جنينة محوطة إسمها البستان. أحكم تحويطها بالأسيجة المعروفة من الشرطان الشائكة. ومن عيدان القصب و الأشواك التي تتراص مثل أصابع الكف.
بوابة عريضة من الجهة الشمالية على الطريق الترابي العام إلى النهر. ودرب ترابية ضيقة، تصل إلى غرفة زاهدة في وسطه. كنت أنام فيها تحت سرير عريض. أذكر أني دخلت إليها ظهر هاجرة، لآخذ الحبل من تحت السرير، فإذا حية شقراء عظيمة، تلتف مثله على نفسها. تملكت نفسي شجاعةالطفولة. حبوت إلى الحبل. سحبته. وتركت الحية، تلهث ترتاح، مستظلة من حر الهاجرة.
كان باب الغرفة/ البيت، ينشرح على جنينة الليمون الشمالية. ولهذا كان القادم إلى البيت، يتعطر بعطرها، على مر الفصول، قبل الدخول إلى البيت.
تربعت أمام باب البيت مصطبة ترابية مرصوصة. توزعت عليها الكراسي، تستظل شجرة التين، وتستمتع بكركرة الماء في الساقية، التي تعبر تحت البيت. وفوقها عبارة خشبية، تصل الباب، بدرج من الحجارة. مداميكها محشوة بالتراب، ترتفع إلى سطح البيت. كما إلى كرم اللوز، فوق البيت. تحت الطريق العام، الذاهب صعدا إلى القرية المجاورة.
كان كرم اللوز، يفترش حقلة تبغ تحت قدميه. وكانت التينة العظمى، تينتين تعانقتا معا. كانتا في منتهى الكرم مع الجيران. يمدون أيديهم إليها من حقلتهم، فيأخذون ما يستطيبون من الطيبان البيضاء والحمراء. وأما صف شجيرات الرمان، فكانت تظلل الساقية الجارية، من الشلال، في حدود البستان، حتى بوابته الشمالية. جدول من الماء يغادر تحت عبارة أخرى. يجتاز الطريق المؤدية إلى النهر والمرجة والطاحونة والعين والكنيسة والجامع، والجبانتين وبيدر الفول، على الكتف الغربي، نحو البساتين الشمالية.
في وسط البستان، كان كرمان للتفاح والإجاص. كنت أرى الموسم، كيف يوضب في الصناديق الخشبية. وكنت ألهو بصندوق سيارة الشحن ، حين تقترب من البستان. تقف أمام بوابته الرئيسية، فتخرج إليها صناديق التفاح والإجاص والرمان والليمون والبرتقال. فأدخل إليها. ألقي عليها نظرة وداعية، قبل أن ينطلق، بل يسافر، الشحن بها، ألى طرابلس.
كانت أشجار الجوز العظيمة، تصطحب النهر، من جنوب البستان ألى شماله. كنت أخرج من مدرسة القرية فورا، مصطحبا كتبي، إلى تحت الجوزة. وهناك أفترش الأرض. أضع الحقيبة على حجرين، حتى لا يتسلق إليها النمل. ثم آخذ بتلاوة دروسي، واحدا واحدا، على مسمع من شجرة الجوز. كانت تهديني كلما أنهيت درسا، حبة جوز عظيمة، أو حية الجوز، تسقط على كتابي، حتى لا أنسى درسي.
عبدت قدماي على مدار الفصول. على مدار السنوات، طريقا ملتوية بين الأعشاب، تحت أشجار الجوز، المصاحبة للنهر. كنت إذا ما عدت إليها، بعد الإنقطاع عنها في فصل الشتاء، أجدها قد جددت شبابها بالعشب. فتبدأ رحلتي الأخرى ذهابا وإيابا، فوق العشب حتى أمحو تضاريسه. حتى أمحو أعشابه، كما أمحو الكتاب بعيني، كما أمحو الدرس.
كان حقل الخيار، هو أول موسم عندنا في البستان. ننتظره بفارغ الصبر حتى نجدد مؤنة البيت. يتلوها حقل البندورة الحمراء التي ندخر موسمها. كان جناها من الليرات، في كيس مخيط، تحت رف الثياب في الخزانة. وأما حقل الباذنجان، فكانت حباته العظيمة مثل درة بقرتنا السوداء. وأما حباته الصغرى، فكانت مثل قطط صغيرة سوداء تحت أمها.
كانت مساكب البقدونس والنعناع والبصل الأخضر، لحاجات البيت. تماما مثلما كانت لحاجات بيت المختار ولمنازل رجال المخفر. ولسائر النسوة العزيزات المتفضلات علينا. كن يدخلن إليها بلا إستئذان من أحد. يقتطفن منها الخصلات، لإتمام طبق الظهيرة وتزيينه عند الغداء.
غدر الشتاء بالقرية، ذات موسم . وخرج النهر عن مجراه غاضبا. إجتاح البستان من أوله إلى آخره. تفقدته عند الصباح، فرأيت الأهوال بعيني. عمدان البيوت. ودرفات الشبابيك. وأبواب خشبية عظيمة، كانت فريسته على الأرض. جاء بها من بيوت الرعيان من أعالي وادي عودين، ووزع حملته على جميع البساتين. فكانت حصة البستان، منه عظيمة.
كان البستان حديقة القرية. حديقة الأصدقاء. وحديقة زملاء المدرسة. في الدراسة وفي التدريس. لطالما كنا نوزع الطاولات وحولها الكراسي، تحت شجر الجوز. وتحت شجر الليمون. وتحت شجر الرمان. لطالما تحلق الزملاء والأصدقاء، تحت شجرة ظليلة من أشجار الزنزلخت أيضا. وكانت تنثر أزهارها، كما أشجار الليمون واللوز والدراق علينا، ونحن جلوس نستظل بفيئها.
كنا نحمل إلى الزوار الكراسي والطاولات الخشبية. وربما حملها الزائر بيده. بكلتا يديه. هناك كانت تدار عليهم فناجين القهوة وأكواب الشاي. بعد أن تسبقهم أطباق الفاكهة الموسمية: الجوز واللوز والتين والعنب والبرتقال والرمان. وكذا الإجاص والتفاح.
كانت النقاشات صاخبة. وكانت بنادق دورية رجال المخفر تعلق على غصون الشجرة التي يستظلونها. كانت جلستهم المفضلة تحت شجرة الدلب، بالقرب من النهر. أو تحت شجرة الزيزفون. تدور عليهم الكاسات. وتدور عليهم في الآن نفسه، الأسياخ، أسياخ الشواء. من منقل الشواء الذي ينتحي جانبا.
كان المنقل إلى جانبهم، يقلبون عليه أسياخ الشواء بأنفسهم. يتبرع واحد منهم لخدمة الزملاء. ويقتطفون معا حبات الخيار والبندورة والبصل وأوراق النعناع، من جوارهم. وأما طبق التبولة، فيحضر لهم من البيت. وكذلك الكبة النيئة والفراكة. وطبق مخصوص من مفقوش الجوز واللوز. وبإزائه طبق الثمار الموسمية.
حقا كان البستان إمارة. منتدى. مدرسة. جامعة. جنينة عظيمة. لطالما كان ينسينا الهم والغم. وينسي الأهل أتعابهم. وحاجاتهم المنزلية. وحاجات العائلة اليومية والموسمية. حقا كان البستان، خاصا وعاما في آن. بل كان بستانا عائليا. شهد على الأفراح. شهد على المآتم. شهد على نيل الشهادات. شهد على الرسوبات. شهد على الخصومات. شهد على عقود الصلح وعقود البيع والشراء. وعقود التجارات.
كان للبستان بوابات صغيرة من الجهات الأربع. كانت عبارة عن طاقات يطل منها على محيطه. وكانت الطاقات محروسة بالأقفال والمفاتيح الخشبية: طاقة تطل على النهر وعين الطاحونة، والدرب المؤدية إلى الكنيسة ودرب الجامع. والحارة الغربية. وطاقة تطل على شلال الماء الذي يصب في الساقية. وطاقة تطل على كرم اللوز الذي يحاذي الطريق العامة السالكة إلى القرى. كانت هذة الطاقة متصلة ببوسطة القرية. لطالما توقفت قبالتها ونزل منها الناس إلينا في البستان.
كان البستان ملعب الطفولة ومقهى الشباب ومنزول الكبار. أذكر كيف صعدت إلى البوسطة من هذة الطاقة . كنت أستلم طابة. أوصيت سائقها أبو خليل، ليأتي بها من طرابلس. توقف قرب الطاقة. أطلق زمور البوسطة. برزت إليه من بين شجيرات البستان. لوح لي بيده. وفى بوعده. حمل إلي الطابة من طرابلس. رماها بإتجاهي من شباك السائق. إبتسمت عيناه لي. وأكمل طريقه بالركاب إلى سائر القرى.
أذكر الباعة المتجولين، كيف يأتون إلى البستان لحمل الخضار والثمار في المواسم. أذكر كيف كان يتسلق الأطفال، كما الشباب، العرائش وشجر الجوز. كيف يدخلون خلسة إلى أشجار التفاح والإجاص الدانية. كيف يخرجون منهزمين، تلاحقهم قضبان الرمان، ورشق عظيم من الحجارة. أذكر كيف كنا نسهر تحت الدالية حتى آخر الليل. أذكر كيف كنا نعمل في البستان مثل أطفال البساتين والحقول والكروم. أذكر كيف كنت أروي نواحي البستان كلها، طوال الليل، وأذهب في الصباح إلى المدرسة. أو إلى قاعة الإمتحانات الرسمية لشهادة السيرتيفيكا أو البروفيه. وأنتظر بعد نيل الشهادة. أذكر مدير المدرسة كيف يهنئ والدي. وينساني، وأنا أتابع جري الماء على جذوع الأشجار وبين خطوط البندورة والخيار. والمهنئون في البستان عصر اليوم، يهنئون والدي بالشهادة، ويغمزونني بعيونهم من بعيد.
حقا، كان كل ذلك خيار العيش في القرية. طفلا وتلميذا ومدرسا. ومزارعا، يتابع يومه مثل سائر المزارعين. يحفظ درسه في البستان، أو على ظهر الحمار، بل وراءه وهو ينقل حمولته مع البقرات. مع الخراف. أذكر البستان اليوم. كان حقا فرصتنا الضائعة.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين