أماكن خاصة( الحلقة 1 ):
المحجارة
كنت دون العاشرة، حين رأت عيناي صورة المحجارة لأول مرة، و لم تتكرر من بعد. كنت أسمع قبل ذلك عنها في البيت. كنت أتعشق للتعرف عليها. فهي بعيدة ولا تصل إليها أقدام طفل صغير. كنت أكبر، ويكبر معي شغفي لرؤيتها. كانت الأحاديث عنها في البيت، تجعلني أتشهى أن أطير إليها كالعصفور. وأحط على شخروب قبالتها. أحط على صخرة قبالتها. أحط على حجر من حجارتها. أليست هي المحجارة بعينها. مقلع الحجارة.
جاءت المناسبة، وأنا في غاية الشوق لرؤيتها. حملت زوادة عظيمة، للعمال، وذهبت إليها. كان من عاداتنا أن يكون غداء العمال علينا.
إمتطيت حماري. وتدلت قربة الماء. وتدلت علب الطعام معا على الجانبين. وشق الحمار طريقه إلى المحجارة، وهو أدرى به مني. تركته يأخذ طريقه نفسه بنفسه، بعدما خرجنا من محيط القرية، وأخذنا طرف الطريق السالكة إليها.
طريق متعرجة بين الحوائط الضيقة، وفوق عبارات قنوات الماء. خوضنا في النهر. ثم سلكنا بين الوديان، وعلى حوافي التلال. نحاذي كتف الجبل الغربي من القرية.
طريق متعرجة، شقها الطليان للوصول إلى مركز تجمعهم في تلكلخ.
عبرنا جسر الطليان. أدهشني الجسر. أدهشتني رؤيته لأول مرة فوق النهر القادم من قريتنا. أدهشتني شجرة الدلب العظيمة فوقه. وجدت راعيا يستظلها والهواء الغربي القادم من مصب النهر في النهر الكبير يداعبها. لا يفتأ يمشط غصونها، ويسرح أوراقها، بإستمرار. تمهلنا فوق الجسر: حماري الصغير، وأنا. حادثني الراعي. كان يعرفنا ويعرف المحجارة. كان يلاطفني، لأنني أحمل طعام الغداء للعمال في المحجارة.
عدت بعد تأن فإستأنفت الطريق. كانت مرصوفة بالحجارة. لم يتسن للطليان أن يفرشوها بالإسفلت، قبل أن يرحلوا عنها. هاجمتهم الحرب. نسوها. فخرجوا وتركوها وراءهم لنا.
كنت تحت الشنبوق الذي يطل على المحجارة، حين رأيت بساطا أبيض، على إمتداد نظري. دهشت حقا. صرخت في قلبي ما هذا. هل رمت عليها جميع عرائس الأرض شرشفها الأبيض، وإنسحبت قبل قدومي إليها، بقليل.
كانت المحجارة مغروسة بشجيرات القطن. لأول مرة أنظر إلى الأرض البيضاء، عروسا تسحب خلفها فستان عرسها. وأما الهضبات المحيطة بها، فقد سرحت فيها النعاج والماعز والأبقار. كان منها ما يستظل الشجيرات والشنابيق المهملة. وكان منها ما يتابع رعي القشرة الخضراء. وكان منها أيضا، ما يعب الماء، من الجدول الرقراق فوقها.
قطعة من الجنان حقا، وقعت في قلبي تلك الزيارة، التي فاجأت بهاالعمال، وهم يهتمون بشجيرات القطن. يجمعون منها أجراسها البيضاء المتفتحة. ويعبئونها بالسلال. يقطفون القطن، كأنهم رهبان وراهبات الحقل، حتى يحافظوا على البياض. على النصاعة.
هب الأهل من بيتنا لنجدة العمال في حقل القطن عندنا. أنجدتهم بجرة الماء العذب. وبسلة الطعام: خبز الذرة من التنور في دارنا. البيض المسلوق. والبيض المقلي. وكاسات اللبن. وعلبة الفاصوليا الحمراء والبيضاء، والأرز والبرغل. والتفاح الأخضر. وخصلات العنب والنعناع والزوباع وباقة البصل الأخضر. بالإضافة إلى إبريق الشاي الذي لا أنسى الفنجان منه. ذلك الذي قدمه أحدهم إلي. وظل لونه الأحمر الغامق في ذاكرتي. كما طعمه من السكر.
أخذوا مني حماري. أراحوه من أثقاله. وأطلقوه حرا على التلال المجاورة بين القطعان التي كان يألفها. أما أنا، فكنت أحصي شجيرات القطن. أعدها كطفل أمام الأستاذ في المدرسة، يخشى أن يخطئ في العد. غير أنني توقفت عن العد فجأة، لأن الشجيرات كانت مساكب مساكب، عظيمة للغاية. تحتاج إلى كل تلاميذ المدرسة. وربما قصروا جميعهم مثلي، عن العد.
مشهد المحجارة البيضاء، كان مثل عروس إتخذت ثوبها من شجيرات القطن، وحولها التلال الخضراء، تسرح فيها القطعان والرعيان. وفيها كوكبة من العمال: مايزتهم نفسي، رجالا ونساء… أما أنا فكنت في الصفحة البيضاء. في كتاب الطبيعة. في دفتر الحقل. كنقطة على السطر.
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
( خاص لموقع ” ميزان الزمان ” / جميع الحقوق محفوظة )
د. قصيّ الحسين