قصاصات صحف
كل الأخبار هذا الصباح. كل الأوجاع. كل التمنيات. كل الإجتهادات. كل المبادرات. كل التطمينات. كل الإصلاحات الموعودة، طارت كلها. إنمحت. بل إختفت. سقطت كلها. صارت اليوم قصاصات صحف.
عدنا إلى “يوم الجمعة”، “يوم الأحد”. عدنا إلى تأخير تقديم الساعة. عدنا إلى تقديم الساعة. عدنا إلى “التوقيتين”. عدنا إلى العطلة الرسمية: السبت والأحد، و”قضمة بعض” ظهيرة يوم الجمعة. عدنا إلى إحتساب أيام الأعياد. إلى إبتكار أيام جديدة منسية، كانت من الذكريات، وصارت من الأعياد. عدنا إلى الستة والستة مكررا. عدنا إلى إلغاء الديمقراطية بتكريس التوافقية. بصمنا على أننا شعبين في دولة واحدة. أبهرتنا فكرة التنوع. صرنا صحونا كثيرة. صحفا كثيرة. جفانا بل جفنات. قصاعا بل قصعات كثيرة، على سفرة واحدة. بل على مائدة واحدة. نقدمها بأيدينا وجبة دسمة لأعظم غول فينا. لأعظم وحش. نوقظ جملة واحدة: كل الذئاب، كل الوحوش، كل الكلاب، إلى المائدة، إلى “المجعلة”، التي تحضر بأيدينا. نلقمهم لحومنا ونحن بعد أحياء. لأننا لم يعد لنا هوية. لم تعد لنا قضية. لم نعد نر الوطن ولا حتى البلاد، التي بلتها جلودنا.
قصاصات صحف كاذبة، صارت كل أقوالنا. هي كل ما يقال عن إجتماعنا الوطني الذي عشناه لقرون طويلة. على أرض واحدة. وعن سماء واحدة. عن النهضة التي أكلت من عيوننا. أكلت من أيدينا. أكلت من أبداننا. أكلت من أرواحنا ومن دمائنا. قصاصات صحف كاذبة، هي كل ما نتحدث به عنها. عن الموقف الوطني. وعن الموقف الإجتماعي. وعن الموقف القومي. وعن الحرية والديمقراطية والعدالة الإجتماعية التالفة.
قصاصات صحف. حكي جرائد. هو كل ما نرويه عن أنفسنا، بأننا نعشق الأرض. بأننا نموت دونها. بأن كل أبنائها أخوة لنا. بأن أمهاتنا واحدة. بأن أمتنا واحدة. بأنا نريد دولة واحدة. وجيشا واحدا. وقضاء واحدا. وجامعة واحدة. وشهادة واحدة. وعدالة واحدة ومحكمة واحدة.
أيها الجلاوزة، توقفوا عن الكذب، ولو لمرة واحدة. فكل ما يخرج من أفواهكم، ليس إلا عفونة. وكل ما تتحدثون به، ليس إلا من صنف الأكاذيب التي تعودتم عليها. فأنتم مادة هذة القصاصات الزائفة. أنتم خشبها. أنتم الموت الزؤام الذي يحضر لنا. حتى ترثوا قبورنا. حتى ترثوا أكفاننا. حتى ترثوا عظام شبابنا. حتى ترثوا عجائزنا. حتى تسرقوا الخواتم من أيديهم. والحلق من آذانهم. حتى تسرقوا الذهب من أسنانهم. أنتم اللصوص الذين لا ينامون عنا، حتى نصير إلى قبورنا.
قصاصات صحف، هي كل رشواتكم لنا. فليس عندكم ما تقدمونه إلا الأكاذيب. إلا الترهات. إلا الكلام المعسول الذي ينقط سما. فإذهبوا إلى لعنة التاريخ، لإنكم كنتم الخونة. فمن خان شعبه في عيشه وفي آماله وفي أسباب حياته، هو الخائن. هو الخائن.
إنما هو الخائن، لا محالة!
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.