مقالة الكاتبة والاعلامية دلال قنديل في ” السبت الثقافي “:
الجوع والتشرد ملمحان أدبيان يماشيان عالماً على شفير الانهيار.
-×-×-×-×-
العالم…
ما هو العالم الذي نعيشه خارج احلامنا وأوهامنا وأفكارنا الموروثة او المنسوجة من خيال؟
ما هو عالمنا الواقعي اليوم خارج تكنولوجيا التسلح وتفوق الذكاء الاصطناعي؟.
ما هو غير صراع الجبابرة الذي لا يتوقف عن سفك الدماء، وسط كركرة الامعاء الخاوية ، تلامطم امواج مراكب الهجرة محملة باشلاء الغرقى ، صفير هواء التصحر ، ارتطام مياه الفيضانات بكل ما هو صلب او انزياح التربة والجبال وتشققها بفعل الزلازل؟.
ما هو العالم من منظار الثقافة والفكر؟
لا بد لهذا العالم إلا أن يُنبى من مداميك هذا الانهيار. لكنه سيصلنا بصور متنوعة .قد تبدو أليفة حيناً ،قاسية وصادمة احياناً.
كتبت الروائية العُمانية بشرى خلفان قبل سنوات روايتها
” دِلشاد” دامجةً بين الأنا في صيغة السرد وبين الجماعة في توثيق لتاريخ مسقط القديمة .
يمنح المكان روحاً بلغة مختالة للَّهجات والعادات ، الشخصيات تلبس لبوساً متأنياً في الحركة والانطباع يتماهى مع لهجات متنوعة.
الرواية التي صدرت بطبعتها الخامسة العام الماضي مهدت الكاتبة بين فصولها لملامح المجاعة التي أطلت بقسوتها مع اكتمالها.
بتدرج العين في الوصف لأنماط متقابلة تتوالى الصفحات التي تقارب الخمسمئة صفحة(٤٩٤). تتمسرح الاماكن بعادات وانماط العيش بين خيام البداوة ومنازل أغنياء التجار.
البحر نقطة جمع . مشرع للهاربين وأصحاب المال وللسفن الحربية الأجنبية في الحرب العالمية.
ألسنة متعددة لمجتمعات متفاوتة ، بقي الجوع اللغة الاقوى في الحبكة التي دفعت بالأب “دِلشاد” لترك إبنته الوحيدة مريم أمام دارة ” لوماه” البيت المعروف أباً عن جد باليسر بفعل إزدهار التجارة.
“عبداللطيف”كثير الاسفار، تاجر نابض بالحيوية،تفوح من جسده الصلب روائح العطور ليسقط بعد ذلك قتيلاً على الشاطىء مصاباً بقذيفة من بوارج ضخمة حطت على الساحل العُماني.
“مريم” التي دخلت البيت طفلة تقاسمت إدارته مع “فردوس” شقيقة “عبداللطيف” لتهرب منها بعدما هددتها بحرمانها من طفلتها وإعادتها من حيث أتت.
تتلو الشخصيات سيرتها، بتتابع الفصول،دون أن ينتقص ذلك من رصانة الحبكة الروائية وسلاستها.
غلاف رواية ” دلشاد ” للكاتبة بشرى خلفان
يقول “دِلشاد” ( قبل أن آخذ مريم الى بيت لوماه كان الجراب الذي نحتفظ فيه بالتمر قد فرغ، وكان آخر ما وضعته في فمي فنجان قهوة من عند باسنجور، عندما ذهبت مع مريم لتقبيل يديه وأخذ بركته، متى كان ذلك ، قبل يوم أو يومين أو أكثر؟”.يفقد والد مريم “دِلشاد” البصر ليعود اليه مرفقاً بوصية الطبيب ان كل ما يحتاجه هو الطعام و مرهماً لعينيه زود به شقيقه بالرضاعة “عيسى” الذي حمله للمستشفى بعدما أغمي عليه.
فقدانه البصر دفعه لإيجاد بديل عن خيمته تقي مريم الجوع، حاول إستعادة إبنته لكن الدار بقيت موصدة وفق القواعد الصارمة. الجارية تدخلها بإرادتها للخدمة مقابل إطعامها، الخروج منها لا يتم الا بإرادة اسيادها.
مسالك الشخصيات في الرواية لا تقل مشقةعن سيرة “دِلشاد”.
“كان الضوء في الحجرة خافتاً وكنت أرتجف ، ورأسي يغشاه دوار خفيف من الوجع والمشي كل هذه المسافة من حارتنا الى “ولجات” أي حيث يقع منزل عبد اللطيف وفردوس..لم أكن قد رأيت رزاً من قبل في حياتي، ولم اكن أعرف طعمه، لكن جوعي ما كان ليسمح لي بالتفكير في ما أحب واكره.وعندما شبعت تنبهت لطعمه، كان لذيذاً، وأظن أن هذا آخر ما فكرت فيه قبل أن أستغرق في النوم جالسة في مكاني ودون ان اغسل يدي.”
ما قالته مريم إبنة التاسعة هو صورة كل جائع لم يتذوق الطعام . تلك اللقيمات الاولى للالتهام ، بلا طعم ، وظيفتها تحريك الأمعاء المتيبسة، الفارغة، منح الحرارة للدم المتكاسل لشح تغذيته.
التجربة أقحمت مريم بالتجارة. فضة خزنتها عملاً بنصيحة زوجها ليوم الضيق. كانت الفضة ذخيرة هربها مع “فريدة” ابنتها. باتت تاجرة ماهرة بعد وفاة زوجها . كان البحر جسر عبورها الى خيام القبائل في الجهة المقابلة من اليابسة .
عوضت حرمانها القراءة والكتابة بتعليم إبنتهما.
يقول “دِلشاد ” الذي هج الى الهند في باخرة احد التجار يائساً من إستعادة إبنته : (تضربني “ما حليمة” بين كتفيَّ لأني ضحكت في غير مكان الضحك).
كانت “فريدة” قد ورثت عن والدتها وجدّها قهقات تثير الذعر في نفوس الحاضرين قبل ان يعتادوها . الضحك يأتي مرة بطعم الجوع والقهر والمرارة ومرات بنكهة التآلف أو التمرد.
صورة الام والابنة تكاملية، حرمان لا يصل الى لحظة أمان، تقول فريدة :
” كان وجهها يتلون بتلون احداث الحكاية، حتى قلت لها إنه من فرط الشوق والحسرة ..”قيس” ، كان يجلس في الشمس طوال النهار ، ويمشي فيقبل جدران الاطلال، هنا تحول كل تعاطف امي الى ضحكة هدرت في بيتنا ، فغطت على اذان المغرب ، الذي تعالى من مسجد “المنذري” في تلك اللحظة، وبقيت تضحك حتى إمتدت ضحكتها الي فتمكنت مني، فوجدت نفسي أعانقها وأضحك مثلها، وهي تردد بين شهقاتها مسكين قيس…مسكين.”
قد يقود الحب للسكون او للجنون ” أسمع أصواتاً كثيرة ، وصوت معلمي مستر علي يمتحن حفظي لسورة مريم، وصوت قاسم ( نجله الذي راسلها لمرافقته الى النجف ولم يصله ردها بالأيجاب وهي التي أقسمت لأمها أن لا تكتب رسالة لشاب).
عيناي تبحثان عنه لكني لا اراه…أنا في داخل الماء أبحث عنه ولا أراه…أصرخ : ياقاسم، وأسمع صوتي يرتد اليّ ولا اعرفه….ثم يغيب كل شيء.”
على هذا المشهد تختفي الوجوه .
لتذيل النهاية بعبارة” تم كتاب الجوع يليه كتاب الشبع بإذن الله!”
هكذا يبدو الحب سراباً والبحر ملجأ بلا اشرعة .كأن المجاعة هي الحقيقة الوحيدة التي يصعب تجاوزها.
المجاعة مفتاح كل اللغات هذه الايام . ربما لو أدرنا محركات المعلومات لوجدناها الاكثر تداولاً كالكوارث الطبيعية والانهيارات الاقتصادية والحروب.
تقول الشاعرة الايطالية
ألدا ماريني
Alda Merini
المولودة في مدينة ميلانو
إن الضائقة التي عاشتها خلال فترة من حياتها وكانت بلا مأوى أو مأكل واختبرت خلالها الجوع والتشرد هي أكثر الذكريات التي لا يمكن تجاوزها.
رغم أنها عانت اضطرابات صحية ونفسية ادخلتها المستشفى مراراً الى ان توفيت بعد كفاح مع مرض السرطان.
تتردد كلماتها بحضورها المؤثر في مسار الشعر والادب وسيرتها التي خصصت لها السينما حيزاً.
طيفها لا يغيب هذه الايام بحضور متألق بنبرة صوتها المتهادية وافكارها الجريئة. أشعارها تطرق أبواب عتمة هذا الكوكب المحكوم بالمال كما كانت تردد ،علّ الكلمات تولد الامل بوقف إنزلاقه الحتمي.
دلال قنديل
ايطاليا
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل