نشرت صحيفة ” الأهرام ” المصرية في عددها الصادر يوم أمس الجمعة مقابلة مع الشاعر أدونيس في ميلاده ال 93 , أجراها الاعلامي محمد القزاز الذي التقاه في باريس , وكتب :
لم تتغير صورة أدونيس فى الذهنية العربية، لا تزال كما هى.. هو رجل ثائر فى فكره، مبدع فى شعره، مثير للجدل أينما حل أو ارتحل، يقول علنا ما يردده الكثيرون سرا، يبدع فى اللغة ويبدع فى الشعر، يتجول فى الفلسفة وفى الفكر ومع كل ذلك لا يزال أحمد سعيد إسبر الشهير بـ « أدونيس» الذى يبلغ عامه الثالث بعد التسعين فى أوج نشاطه الفكرى والثقافى، حضوره وتأثيره يضربان بعمق فى الثقافة العربية والغربية كذلك.
قضايا أدونيس لم تتغير كما آراؤه، لكن يظل التحاور معه مختلفا ومثيرا، ويظل قادرا على إبهارك، فهوالشاعر والمفكر والمترجم والفيلسوف وصاحب المشروع فى قراءة التراث، لا يزال، وهو يجمع ألقابا عدة من الوزن الثقيل مفكر كبير وشاعر عظيم ومثقف واسع المعرفة.
فى باريس التقته الأهرام وأجرت معه حوارا حول الثقافة والسياسة، حول التراث وكيفية نقده وقراءته والسرديات المهيمنة والمكبلة للعقل العربى، حول أسئلة كثيرة لا نريد أن نقترب منها ناهيك عن التفكير فيها.. فإلى التفاصيل:
ما الذى ربحته وما الذى خسرته فى معاركك الشعرية والفكرية خلال مشوارك المديد؟
أنا لا أحب الطريقة العربية فى الحديث عن الذات، والحديث عما أنجزته، أنا شخص أتعلم، وكلما تقدمت فى العلم أشعر بأننى لا أعرف شيئا، ولذا لا أحب أن أتحدث عما أنجزته; لأن ما أنجزته إذا قيس بالعظماء الذين أنجزوا ما أنجزوه، أرى أن ما قدمته متواضع جدا. ثمّ أنت فى العالم العربى وفى الثقافة العربية السائدة لا ذاتية للإنسان، بل مجرد مجموعة من التعاليم، إفعل هذا ولا تفعل ذاك، فالإنسان العربى لا ذاتية له، وكل ما فعلته فعلته مع أصدقاء من مشروعات لأقول «لا» لهذه الثقافة، لأن هذا أمر مرتبط بالثقافة العربية السائدة، فالأساس هو الجمع والأمة، الذاتية لا وجود لها، وهناك مقولة للفارابى: كل موجود فى ذاته فذاته له، وكل موجود فى آلته فذاته لغيره، ونحن العرب لا موجودين ذاتيا، بل موجودون فى آلة دينية أو آلة سياسية لا فى ذواتنا، أو هما معا: آلة دينية وسياسية، وأنا ما زلت أبحث عن ذاتى، وقد نجحت حينا وفشلت حينا آخر، غير أنه لا يمكن النجاح أبدا على فكرة تقوم جوهريا على محو الذات، وثقافتنا قائمة على محو الذات، وقائمة على الجمع وعلى الأمة، وأنت كفرد فى أمة لا رأى لك.
كيف؟
إعلم، لا أحد ضد الدين، الدين حاجة إنسانية ويجب احترامها، لكن الدين تجربة فردية وليس تجربة جماعية، أنت حرٌ تعبد من تشاء وكما تشاء، لكن لا تفرض دينك على أحد، فالمواطنون فى المجتمع لابد أن تكون لهم قيم واحدة، وأن تكون القيم مدنية لا دينية، فالدين ملزم أنا آكل هذا وأنت لا تأكله، أنا أقوم بذلك وأنت لا تقوم به، وإذن يستحيل أن تكون لك وحدة مدنية فى مجتمع كل واحد لديه عالمه الخاص. المشترك يجب أن يكون مدنيا لا دينيا، وما لم يتم ذلك يستحيل أن تكون عندنا مجتمعات حقيقية.
لقد سقطت الخلافة العثمانية عام 1923 نحن الآن فى2023 أى قرن كامل، بداية الخروج كانت محمد عليّ، فإذا وضعت هذا التاريخ ودرسته منذ محمد على وحتى الآن فسوف ترى أن محمد علىّ كان أكثر تقدما من كل من جاء بعده.
لماذا؟
إذا نظرت إلى القرن الفائت فستجد أنه عصر الانقلابات المعرفية الكبرى، وعصر الخروج من الظلمات إلى النور، فكل دول العالم تقدمت فى هذا القرن، وانقلبت من سيىء إلى أقل سوءا، أو من حسن إلى أحسن، إلا العرب فى هذا القرن ازدادوا تخلفا، ينبغى أن تعلم أن الأمة لا تنتج قصيدة، الفرد هو الذى ينتج قصيدة، الذات والأمة لا تنتجان لوحة، الفنان هو الذى ينتج لوحة، الأمة لا تبدع سيارة، الفرد هو الذى يبدع سيارة، الأمة: لا توجد أمة، والسؤال كيف تخرج من هذه المفاهيم؟ كيف تخرج من هذا العالم الآلي القاتل؟
على مستوى آخر فإن العرب موجودون فى قارتى آسيا وافريقيا، تاريخ عريق من الفرعونية والفينيقية وغيرهما، أساس العالم موجود فى هذه المنطقة على جميع المستويات أساسه الفن والدينى والأخلاقى والعمرانى، فهو مؤسس العالم، منْ بحاجة أكثر الآن، العرب لأمريكا أم أمريكا للعرب، أمريكا فى حاجة للعرب، والعرب ليسوا فى حاجة إلى أمريكا على الإطلاق، وعلى أى مستوى، ولا يحتاجون إلى فرنسا أو أوروبا، هم فى حاجة إليهم، هذه هى أزمتنا ومشكلتى ياسيدى، وأنا أتصارع مع هذه المشكلة.
وكيف سبيل الخروج؟
يجب أن يخرج العرب من السردية الدينية المكبلة، ومن السردية الغربية المهيمنة، وإذا لم يتم هذا الخروج فنحن ذاهبون إلى الانقراض بالمعنى الرومانى للحضارة.
الشاعر أدونيس
فى معرض الكتاب بالقاهرة عام 2015 أثرت قضية لإعادة قراءة الموروث العربى الإسلامى، وهو مشروعك منذ زمن طويل منذ كتاب الثابت والمتحول، هل ترى أن تجديد الخطاب الدينى لن يحدث إلا من خلال تلك القراءة؟
من حيث المبدأ نعم، قد يتغير نوعيا فيصير أوسع وأعمق، هذا مشروع حياتى، وقد حاولت أن أعيد كتابة التاريخ الذى أنا وأنت جزء منه، أعيده بشكل صحيح، لأنه بالأخير أن الدين وجد من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من أجل الدين، هذه قاعدة، الإنسان هو الغاية العليا، والدين يجب أن يخدمه، وإلا ما كان فيه إله واحد وديانات متعددة، فالله يقول «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا» فالله نفسه عنده الحسن والأحسن، ويخاطب نبيه فيقول له «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ» و«لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ» و«فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ». وهذه الآيات ليست منسوخة، فلماذا لا يقرأ المؤمنون القرآن فى هذه الأشياء، ومن هنا يجب العودة كليا إلى النص المشترك وهو النص القرآنى، وأنا أقول هذا للمسلمين فأنا لست متدينا، لكنى أحترم الدين واحترم حقوق الإنسان فى الدين، يجب العودة إلى النص القرآنى، الذى يتفق عليه الجميع شيعة وسنة، ومذاهب وطوائف إلى آخره، وترك كل ما عداه
.
لكن تجديد الخطاب الدينى نردده ولا نقترب منه، مع أن الفكرة قديمة جدا، لكنها لا تزال إلى اليوم موضع جدال، كيف نخرج من تلك الدائرة الجدلية ونبدأ تجديدا حقيقيا لذلك الخطاب؟
أنا أنصح بذلك فقط، ودون ذلك سيشوه الدين نفسه ويتحول إلى مجرد أداة وآلة، لن ننتج أى عمل عظيم على الإطلاق، وأول ما يجب القيام به والخروج منه هو الوصاية، لا وسيط بين الإنسان وبين الله، لا شيخ ولا مؤسسة، كل هذا مختلق، لنترك الإنسان لخالقه.
قلت إن داعش هى ابنة الإسلام والمسلمين الفاشيين، وليست ابنة الاستعمار وحقوق الإنسان، وأليست داعش من صُنع أمريكا كما قالت هيلارى كلينتون؟
نعم هى من صُنع أمريكا، ومن صنع المسلمين أيضا، المسلمون مولوها. داعش قامت بأعمال مهينة أولا للإسلام، لأنه ثبت للبشر أنهم لا ذنب لهم، واغتصبت النساء وشردت شعوبا بأكملها، وما حدث للإيزيدية شىء مهين للدين ومهين للإنسانية، والأصعب من ذلك أن أى مؤسسة دينية لم تقل لا ولم تنتقد ما فعلته داعش، ولم يصدر أى بيان من المفكرين المسلمين – إن كان هناك مفكرون – يدين هذا العمل، لأن ما فعلته هو ضد الإسلام فى المقام الأول، وهذا هو الأصعب، فدائما هناك مجرمون فى الشعوب، لكن أن يُسكت عن الجريمة فهذا هو الأصعب. سكت المسلمون عن كل هذه الجرائم التى دمرت سوريا والعراق واليمن وليبيا، ودمرت كل شىء.
الإسلام الصوفى وسط كل تلك الأزمات فى مواجهة داعش أو ما تبقى منه فى الفكر والتيارات الأصولية الأخرى، هل يمكن للصوفية أن تكون بديلا أو سبيلًا للخلاص من التوجهات الدينية المتشددة؟
ليس هناك إسلام صوفى، هذه شائعة، لأن التصوف كدروشة فيه إساءة فهم، ويجب على كل عربى أن يقرأ تاريخه، العرب لا يقرأون تاريخهم ولا يعرفونه، يتحدثون عن التصوف ولا يعرفون ما هو التصوف، التصوف جوهريا نظرة مخالفة بالأساس للنظرة الإسلامية، وأول شىء فإن الله فى الإسلام قوة مجردة من خارج العالم تدير العالم، وفى التصوف الله طاقة،؟ عضويا موجود فى كل شىء وفى العالم، وهذه غيّرت مفهوم الله فى الصوفية، وثانيا غيّرت مفهوم العلاقة بالآخر، فالآخر فى الإسلام التقليدى كافر ما لم يصير مسلما، وفى التصوف لايوجد كافر ومسلم، فيه إنسان عارِِ وإنسان غير عارِِ، ولا يوجد كفر بالتصوف، هناك إنسان، وهناك ذات وهناك آخر. ثالثا غيرت مفهوم الهوية، فالهوية ليست إرثا، إذا كنت مسلما تصير مسلما، الهوية ابتكار يبتكرها الإنسان، بعمله وأفكاره، فكل إنسان له هويته الخاصة، فالهوية مسألة صلاحية سياسية، فهى بالمعنى العميق هى هوية إبداع، وجميع المفكرين يرون أن التصوف ثورة عظيمة فكريا، لكن لا علاقة لها بالإسلام، هى عاشت فى الإسلام وهناك من قُتل ومن دُمر، فأبو حيان التوحيدى وهو من كبار المفكرين فى العالم، ألقى فى أواخر عمره كتبه فى البحر ضنّا بها على من لا يقدرها بعد وفاته، واشتكى من تجاهل إبداعاته، ولحسن الحظ أن لدينا نسخا منها كان أصدقاؤه قد نقلوها منه قبل إلقائها، وهو من كبار الكتاب فى العالم وليس فى العرب فقط، والمعرّى أفضل من دانتى وأهم منه، وأبونواس أهم من بودلير، لأن ما قاله بودلير بعد ألف سنة من أبى نواس قاله أبو نواس، هذه السردية الغربية هى التى دمرتنا ثقافيا، واستعمرتنا عقليا، فالآن أى شاعر غربى تافه لا قيمة له تضعه الصحف العربية فى صدارة صفحاتها الأولى.
ليس فقط السياسيون مستعمرين فى السردية الغربية، المفكرون أيضا مُستعمرون، ولماذا المعرّى أهم من دانتى؟ لأنه كان إنسانا، بينما دانتى كان عنصريا، لكننا نحن العرب ندافع عن دانتى لأن من قام بالترجمة له حذف كل شعر له علاقة بالعنصرية ووضعوا رقابة على أبياته كى يظهر بالصورة التى يتمنونها. دانتى كان عنصريا ومتدينا بالمعنى الكنسى، ولم تكن له قيمة سوى أنه كتب باللغة الإيطالية الدارجة، فقيمته ثقافيا لا شعريا ولا إنسانيا.
الشاعر أدونيس خلال المقابلة
بخصوص الشعر، لماذا تذهب إلى أن الجيل الشعرى الراهن أفضل من جيلكم،؟ فلماذا الآن نشعر بغياب الشعراء واختفاء الشعر خلاف الوضع سابقا؟
سأعقد مثالين من الشعر العربى، الأول من مصر أو ما يسمى عصر النهضة أو خلاصة عصر النهضة، فشوقى سميناه «أمير الشعراء» إذا وضعته الآن أمامنا مع أبى تمام والبحترى والمتنبى الشعراء الذين استعادهم، وإن كانت الاستعادة بلغة عالية، لكن إذا قارنته كرؤية شعرية مع شاعر تتحاور معه وقارنته بهؤلاء ستجد أنه لا شىء بالنسبة لهؤلاء، لم يضف أى شىء، وإن من سميناه أمير الشعراء كان تقليديا جدا ولم يضف للشعر العربى شيئا على الإطلاق، وإذا قارنت شوقى بصلاح جاهين فستجد أن الأخير هو الأفضل، فصلاح جاهين حتى الآن يحاورنى ويحكى معى، أما شوقى فلا أستطيع أن أقرأه أبدا، وأنا أفضل صلاح جاهين عن أحمد شوقى.
المثال الثانى: محمد مهدى الجواهرى سميناه «شاعر العرب الأكبر» الشىء نفسه أقوله أنه ليس لدى الجواهرى أى شىء جديد على الإطلاق، مُظفر النواب أفضل منه. لماذا؟ لأن وراء شوقى الإيديولوجيا والدين والتراث، والشىء نفسه لدى الجواهرى.
إذن أنت تضع صلاح جاهين على رأس كل الشعراء فى هذا العصر؟
طبعا، هو أفضل الشعراء فى مصر، وهو الأكثر أهمية شعرية وأعمق إنسانية وأبعد أفقا من أمير الشعراء شوقى، والشىء نفسه للجواهرى، فالإيديولوجيا مثل الدين تشوه كل شىء، وتعطى الحق لمن لا حق له، فالشعر الأيديولوجى الذى كتب فى الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية وكل الثورات أين هو الآن؟ إنه لا قيمة له على الإطلاق.
عودة إلى السؤال، هل غاب الشعر أم اختفى الشعراء؟
الشعر اليوم الذى تكتبه المرأة العربية بشكل خاص، وما يكتبه بعض الشباب وليسوا كثيرين أكثر أهمية من جيلنا كله وبدون استثناء.
لماذا؟
إذا كنت تعيش أنت وأخوك فى بيت واحد، هل تحلم مثله؟ هل مخيلتك مثله؟ هل مشاعرك مثله، ومن ثمّ فإن الفرد مشكلاته خاصة به وحده، وليست عامة، الرأس عام ومشترك، والشعر لا يأتى من هذا الرأس المشترك، لكنه يأتى من الجسد، ومشكلاته الخاصة، والفرادة فى الجسد لا فى الرأس، وإذن الجسد مقدس، وبهذا المعنى يجب أن نفهم علاقة الفراعنة بالموت بهذا الأفق، لأن الجسد مقدس، وهؤلاء الشبان والشابات والمرأة بشكل خاص بدأت تخرج من ثقافة الرأس، أى تخرج من التقاليد والثقافة الدينية وكل السرديات المكبلة، وبدأت تخلق عالما آخر، لأن العلاقة بالأشياء تغيرت، المخيلة والجسد صارت أساسا فى الكتابة الشعرية، ولأول مرة يتم هذا الخروج، وأنا أقوم برعاية مشروع شعرى الآن وسوف تصدر قريبا فى القاهرة اسمها «تحولات» وشعر المرأة اسمه «أنتِ هى» هذا التحول من ثقافة الرأس التقليدية إلى ثقافة الجسد الحرة الفردية خلقت عالما آخر من الكلمات والأشياء، ومن ثم خلقت شعرا آخر.
هل تراهن على هذا الجيل؟
بالتأكيد أراهن على هذا الجيل، لأنه فاتحة جديدة كليا فى الكتابة الشعرية، فأزمة الشعر ليست شعرية، هى أزمة قراءة، فالعرب لا يقرأون، هى أزمة ثقافية واجتماعية لا شعرية، فالشعر حىٌّ ما دام هناك شيئان: الحب والموت، لا توجد أزمة شعرية أبدا.
أنت منحاز للشعر والشعراء؟
لا، أنا منحاز للإبداع. الشعر من حيث هو تعبير عن الذات الإنسانية هو أعظم تعبير عن الإنسان، وبوصفه أعظم تعبير عن الإنسان أنا معه.
وهل هو أعظم من الرواية؟
طبعا وبلا شك.
حين كتب جابر عصفور قبل ربع قرن «زمن الرواية»، فإنه لا يزال حتى اللحظة يثير الجدل والمناقشات
لكنك تذهب إلى أنّ الرّوائييّن ليس لهم أيّ تأثير كبير فى المجتمع المعاصر، حتى وإن كان لهم قرّاء أكثر ممّا لدى الشعراء، هل نعد ذلك بأنك نصير للشعر وعدو للرواية؟
طبعا ليس عصر الرواية، بل عصر الشعر، فأنا لا أرى روائيا عربيا خارج نجيب محفوظ، الوحيد حتى الآن الذى يمكن أن أتباهى به هو نجيب محفوظ، لأنه أكثر من روائى، هو عنده رؤية للمجتمع والحضارة، الروائيون الآخرون سجناء القص والسرد، ومحفوظ حول السرد إلى خلق عالم.
كنا نظن أن جيلكم هو الأخصب شعرا، لكنك هاجمت هذه الفرضية؟
أنا أحترمها، لكنها مع الأسف هذا عصر بكامله هُدم، هل يُعقل أن يعيش الجواهرى وشوقى ويُهدم على عبدالرازق، هل يُعقل أن يهدم محمد عبده بانفتاحه الفكرى، هل يُعقل أن يُهدم من قدم معرفة علمية مثل سلامة موسى وشبلى شميّل، لقد تم هدم البذرة العلمية فى عصر النهضة.
هل بسبب غياب الوعى الثقافى أم الفراغ الثقافى؟
بسبب الثقافة المهيمنة التى فى أساسها جينية نحن يجب باختصار أن نتعلم النقد الذاتى، فلا أحد منّا يعترف بأنه أخطأ، وأنا لم أقرأ أن أحدا أعترف بأنه أخطأ سوى جمال عبدالناصر، وأقر بأنه مسئول عن الهزيمة، هذا هو الوحيد فى تاريخ العرب.
بات جليا أننا نعيش حالة من التفكك المجتمعى وانعزال الأفراد وسيطرة المشاعر السلبية، كان واضحا ذلك فى منطقتنا بعد ثورات الربيع العربى، وكان أكثر وضوحا فى العالم بعد جائحة كورونا، هل ترى أن هناك تحولات جوهرية فى حياتنا المعاصرة، وماذا كان رصدك لذلك؟
ياسيدى تخيّل لو أن العرب قال للغرب لا، ألا ستتغير خريطة العالم، بكل بساطة العرب موجودون فى آلة السلطة، والسلطة موجودة فى آلة الغرب.
إلام استندت قراءتك حينها؟
على الواقع الذى نعيشه، فأمريكا فى حاجة للعرب أكثر مما العرب فى حاجة إلى أمريكا، فلماذا العرب يخضعون لأمريكا، لأن العرب لم يدفعوا ثمن حرياتهم، ذهبت الخلافة العثمانية وجاء البريطانيون وقسموا البلاد العربية ولا أحد قال لهم لا وناقشهم
.
منذ نشوء الثورات أو الحراك الشعبى فى العالم العربى تونس ومصر سوريا ودول اخرى كنت ترى أنها ثورات فاشلة أو مطالبها غير صحيحة، هوجمت كثيرا بسبب ذلك؟ لكن كيف قرأت ذلك مبكرا؟
ليس هناك ثورات شعبية، هناك تحريك شعبى، ماذا تعنى الثورة؟ لابد أن يكون هناك بيان يوحى أن هذه ثورة، هل يمكن صناعة ثورة على مبادىء هى العلة؟ هى الخراب؟ هل هناك ثورة تخرج من مسجد؟ ويهتفون العلويين على التابوت والمسيحيين على بيروت، معقول فى دمشق تخرج تظاهرة ونسميها ثورة، نفس الشىء بالعراق، هذه سنية وهذه شيعية، وهذا أمر مخجل، يجب حين نثور أن نحترم الدين ونجعله مثل الحب مسألة شخصية، هذا احترام للدين والمفترض أن هذه تعاليمه، أنت بذلك تشوه الدين.
ينتقدك البعض بأنك تكتفى بالتفكيك والتشريح والوصف، وتوظف مفهوم النقد بمَعناه السلبى، لا البناء والخلاق، وأنك لم تقترح حلولا ومَخارِج لأزمات الواقع العربى والإسلامى الحالى؟
إذا كان هناك أشخاص صنعوا للغة العربية شيئا طيبا، فأنا أكون ضمن تعداد هؤلاء، فما كتبته عن الشعر العربى لم يكتبه أحد، حتى طه حسين، وأنا أعشق هذا العالم، وإذا كنت انتقدته فلأننى أحبه، أنا أحب أن يكون هناك مسلمون حقيقيون نستطيع أن نقرأهم، لكن يؤسفنى أننى لا أجد مسلما واحدا يفكر تفكيرا صحيحا، أو عنده قراءة جديدة للإسلام، كلهم يتباهون، وكل واحد يقول لك أنا المسلم، وأنت لا تفهم الإسلام، وهذه أيضا ليست المشكلة، كل ما قرأته نقد للمسلم الآخر، وإذا أردت أن تؤمن بالإسلام إقرأنى أنا وخذ برأيى أنا، كلهم كذلك، نزعة غير معقولة، كل واحد يكذب الآخر، وكل واحد أفضل من الآخر
.
لكن ما أسهل ولا أيسر من التشخيص الثقافيّ لمعضلات العالَم العربىّ، لكننا لا نقدم علاجا ولا نبذل مجهودا ولا نضع مشروعا لعلاج معضلاتنا الثقافية، وأنت وغيرك متهمون بذلك؟ ألا تتفق معى؟
مشروعى هو الخروج من هاتين السرديتين المهيمنتين، وهذا أفق مفتوح إلى ما لا نهاية، ليست هناك حلول، ولكن هناك عمل لهذا الخروج، كل ما فعلته داخل التراث العربى كى أخرج من هذه السردية، وما فعلته مع الآخر أيضا لكى أخرج من السردية الغربية، فأنا أستطيع أن أنتقد الغرب فى قلبه وهذه أهميته، أكثر مما كنت أستطيع أن أنتقده خارج الغرب.
قبل وباء كورونا كان العالم مريضا وأنه سيختلف بعد الوباء، فما الذى فعلته وستفعله الحرب بالعالم والإنسان والمجتمعات؟ كيف يبدو لك مستقبل العالم ككل؟
دمار، لا أعرف، لأنه أولا هذا لا يجوز أن تخرجه من إطار المركزية الغربية، وهذه المركزية لا تريد أن تتزحزح أبدا، فهى المهيمنة على العالم، وكما استأصلت البيض الأمريكان، السكان الأصليين فى أمريكا الشمالية، يردون ان يفعلوا بطريقة أو بأخرى مع العالم، ولذا يجب الخلاص من المركزية الغربية.
كيف؟
بجعل العالم متنوع ومتعدد وديمقراطى، هناك الأمريكى له عالمه، وهناك الصينى له عالمه، وهناك العرب ولهم عالمهم، أن يصير هناك تنوع وتعدد وتلاقح بهذه التعددية، أى لا يصير قطب واحد مهيمن على العالم.
إذن عالم متعدد الأقطاب هو الأفضل؟
بدون أدنى شك، لكن هذا لن يقبله الغرب، ومطلوب أن يقبله، وإلا ستستمر الحرب فى أوكرانيا، فالغرب قام على هذه النزعة.
العنصرية الإمبريالية، ويجب أن يتوقف من أجل الغرب ذاته، يجب أن يعود إلى إنسانيته وأن يكون البشر متنوعين ومتعددين، وأساس العلاقة بين الدول الكبرى والعالم والشعوب هى هذه العلاقة العميقة بين الذات والآخر، فأنا ضد أن يكون هناك واحد يسيطر على العالم كله، لسنا مع الصين، لكن لا يمكن أن نكون مع الأمريكان، يستحيل ذلك، لأن العمل الأمريكى عمل عدوانى وعنصرى.
طوال مسيرتك الشعرية والثقافية والفكرية كنت تتعرض دوما للنقد؟ فما الذى كان يجرحك أكثر النقد أم أشخاص المنتقدين؟
أعترف لك أنى لم أكن أقرأ أى انتقاد لى إلا بحسب الشخص حتى أرى تفكيره، فإذا لم أكن منتقدا ألوم نفسى، يجب أن يكون هناك من ينتقدنى، لكن أعظم شىء أن يكون لك عدو فى مستواك، وأنا لا يضرنى ولا يضيرنى العداء على الإطلاق، وإذا لم يكن هناك أشخاص يخالفوننى الرأى فمعنى ذلك أن الحياة صعبة وعلامة سيئة، يجب أن يكون هناك من يخالفك الرأى حتى تتنوع وتتعدد الآراء، لكن المشكلة أن من يخالف الرأى ليس فى مستواك، هى مسألة أخلاقية، فهو لا يقرأ أو يخرج الأشياء عن سياقها، المهم أن من ينتقد أن يكون ذا مستوى أخلاقى، وأنا أحب عدوىّ الذكى المثقف وأفضله على صديقى الجاهل وإن كان يحبنى.
رُشِّحت لجائزة نوبل مرّاتٍ ومرّات؟ هل اكتفت الجائزة بمحفوظ ولا نرى عربيا يحصل عليها قريبا؟
هذه مشكلتهم، وليست مشكلتى أبدا.