قلم رصاص.. و”محّايّه”…
بقلم: د. بسّام بلاّن
يقولون: كلما تقدم الإنسان بالعمر.. كلما عاد أكثر الى طفولته. أكثر الأشياء التي تشدني الى طفولتي، وقد تجاوزت الخمسين، هما قلم الرصاص والممحاة، أو “المحّايّه” كما نلفظها بالعامية. ففي أيامنا، كانت قوانين المدرسة تفرض علينا الكتابة بقلم الرصاص فقط في الصفين الأول والثاني الإبتدائي.. ولايُسمح لنا استخدام أقلام الحبر، سواء السائل منها أو الجاف، إلاّ في الصف الثالث وما بعده.
وقتها كنت أنظر بإحتقار لقلم الرصاص.. وأعدُّ الأيام والليالي لأصبح في الصف الثالث كي أحمل قلم الحبر، وأختار منه ألوان الأزرق والأسود والأحمر والأخضر وما يتيسر من خيارات. وأذكر كم كان يتملكني الشعور بالدونية بين طلاب ما بعد الصف الثاني، وغيرتي منهم لأنهم كبروا وصار قلم الرصاص بالنسبة إليهم يُستخدم في مادة الرسم فقط. ولشدة احتقاري لقلم الرصاص كنت أنتقم منه شر انتقام؛ فأحشوه في المِبْراة وأظل أدوره فيها حتى آتي على نصفه بريّاً وتكسيراً. وأُكمل عليه بعد أن أنهي واجباتي ووظائفي المدرسية، وأحمل ما تبقى منه وأذهب الى والدي لأطلب منه قلماً آخر.. فقلمي صار قزماً بحجم “تحميلة”، وبالتالي لم يعد صالحاً للكتابة. كان والدي يستغرب، ويقول لي: “لم أرَ في حياتي طالباً.. ولم أسمع عن طالبٍ يستهلك قلمي رصاص في اليوم الواحد.. ماذا تفعل بهما“!؟.
كان سؤاله هذا يحرجني، وأبدأ رحلة البحث عن الذرائع، فتارة أقول له إن واجباتي كثيرة ولايكفيها أقل من قلمين، وتارة أخرى أتحجج بأن الأقلام التي يشتريها لي من النوعية السيئة، وتتكسر رؤوسها بمجرد وضعها على الورقة.. واختم بالقول: “أووف إيمت راح صير بالصف الثالث لأكتب بقلم الحبر، وإخلص من قلم الرصاص”؟!”.. وكان والدي يداعب شعري بيده ويجيبني: “لاتستعجل الأيام ستصل بك لذلك اليوم.. لا تستعجل“.
……
………..
كانت فرحتي لاتوصف عندما أصبحت في الصف الثالث، وبدأت رحلتي مع استخدام أقلام الحبر. وأذكر عندما ذهبت رفقة والدي لشراء الحاجيات المدرسية، اشتريت منها أعداداً كثيرة ومن مختلف الألوان. لم أستمع حينها لنصيحة البائع في المكتبة، بأن آخذ فقط حاجتي لشهر واحد أو اقل، لأن هذه النوعية من الأقلام تجف وتصبح غير صالحة للكتابة إن بقيت كثيراً دون استخدام.. وأجيبه: “لا تخاف كل يوم بكتب بقلم مختلف وما بتركهم يجفوا“.
……
……….
في أول يوم مدرسة، حملت حقيبتي والدفاتر.. ووضعت في جيب اللباس المدرسي، الذي كنّا نسميه “مريولة” ثلاثة أقلام حبر ناشف؛ أزرق وأحمر وأخضر، لأعلن بها خروجي من نادي قلم الرصاص و”المحايّه” ودخولي نادي أقلام الحبر من أوسع أبوابه. وعلى معقد الدراسة في الفصل، وضعتهم أمامي ورحت أتفنن في تلوين الكلمات، ووضع الرموز كالنجمة مثلاً، والنقاط الكبيرة في بداية كل سطر.. مرة باللون الأحمر، ومرة أخرى باللون الأخضر. وعندما نخرج للإستراحة بين درس وآخر، لا أضع أقلامي في الحقيبة بل في جيب “المريولة” بحيث تخرج رؤوسها شامخة بقبعاتها للأعلى وتظهر للملأ.
ولم ينته اليوم الأول حتى أكلت أول وأكبر مقلب في حياتي من القلم الأزرق، فبسبب تعرضه لأشعة الشمس والحرارة جراء ركضنا في باحة المدرسة، تمدد حبره وخرج من جسمه ليستقر في جيبي، تاركاً بقعة في أسفلها كبقعة الدهان. وعندما حاولت مسكه لإصلاح الموقف، اتسخت يداي بحبره وأمضيت ما تبقى من الفسحة أغسلهما، ولكن دون جدوى.. وعندما عدت للبيت عنفتني أمي تعنيفاً شديداً؛ فـ ” المريولة” لاتزال جديدة وأفسدتها منذ اليوم الأول.. حاولت غَسلَها بكل ما تملكه حينها من مواد تنظيف، ومع ذلك ظلّت آثار الحبر عليها.. وكانت عقوبتي بأن طلبت من والدي ألاّ يشتري لي “مريولة” جديدة، كي أتعلم ألاّ أضع الأقلام في جيبي مرة أخرى.. فأمتثلت صاغراً للعقوبة، وبقيت على هذه الحال حتى نهاية العام. ومن يومها بدأت أراجع موقفي من قلم الرصاص، وبدأت أشعر بالندم على كل قلمٍ انتقمت منه وعاملته بقسوة وإزدراء.
…..
………..
قبل اختراع الـ “كي بورد” واضطرارنا للكتابة الإفتراضية بالنقر عليه، كان استخدامي في الغالب لقلم الرصاص. وأعامله بكل لطف واحترام تبعاً لما يقدمه لي من ميزات لايمكن لأقلام الحبر أن تتيحها.
فالكتابة به تعطي فرصة تصحيح كل خطأ نقع به لأن الممحاة موجودة، وعندما نخطئ لايكلفنا الأمر شيئاً. أما اذا كنت تكتب بقلم الحبر، فلا وسيلة للتصحيح إلاّ الشطب بالشخط على الخطأ والبدء من جديد.. سواء للكلمة أو العبارة أو السطر كله. وعندما تنتهي تجد أن نصف ورقتك قد أهدرتها بالشخط والتصحيح والكتابة من جديد، وهذا الأمر لن يهمك بقدر ما سيغضبك عدم أناقة الورقة، التي ستبدو وكانها خاضت حرباً عالمية.. أو أنت خضت حرباً على وجهها. فتضطر لإعادة الكتابة من جديد؛ لأنه من المخجل أن تتقدم بها للناس أو لمعلم أو لأي كان.
وكلّنا في مرحلة عمرية ما جرّب أن يكتب رسالة لحبيب أو حبيبة، وكلّنا يتذكر كم مرة اضطر لإعادة كتابتها بسبب خطأ في كلمة أو جملة اضطرته لشطبها بالشخط عليها.
…….
……………
ماذا لو حاولنا اسقاط موضوع قلم الرصاص وقلم الحبر على حياتنا وتجاربنا؟
أعتقد أن غالبيتنا كانت تتمنى لو أنها تمتلك خيار كتابة صفحات عمرها بقلم رصاص وفي اليد الأخرى ممحاة. ولكن للأسف منذ الصف الثالث الإبتدائي مجبرون على هجرة هذا النادي الجميل، والدخول الى النادي الآخر؛ أقصد نادي أقلام الحبر، وبالتالي نبدأ الشطب بالشخط وتشويه الورقة.. وإذا مزقناها نشوه الدفتر ونُفقده تماسكه وقوته، فضلاً عن أننا سنرمي هذه الورقة في زاوية نظنها سلّة مهملات في نفوسنا، وعندما تمتلئ تصبح عبئاً ثقيلاً على أمسنا ويومنا وغدنا.
……
…………
لنسأل أنفسنا: كم هي الأوراق المشوهة في دفاتر حياتنا، والتي لاحيلة لنا بها أبداً لأنها كُتبت بالحبر.. وما حجم الأثر الذي تتركه فينا.. وكم أجهدنا أنفسنا لإلغائها دون تبعات وفشلنا.. وكم أثّر تمزيقها في تماسك وقوة دفترنا بأكمله.. وكم عدد الأوراق المرمية في زوايا ارواحنا؟.
ثم؛ ماذا لو أننا كنا مخيرين على كتابتها بقلم رصاص والممحاة بيدنا الأخرى، نمسح ونمحي كل خطأ ثم نتابع؛ فتبقى الصفحة أنيقة والدفتر قوياً متماسكاً بكامل أوراقه؟
……
………..
عندما أكون متعباً وأريد تعزية نفسي، أتمتم بالأغنية الطفولية إياها: ” ألف بي بوباية قلم رصاص ومحايّة…”
……
………..
لا أحد منكم يتصور الآن مدى حنيني لقلم الرصاص ولازمته الممحاة.. ومقدار ندمي على إزدرائه في يوم من الأيام، حتى ولو كنت طفلاً.
د. بسّام بلّان
كم نحن بحاجة الى مراجعة ذواتنا وجلدها (بفتح الجيم) أحيانا لاستخلاص العبر ..
قدمت مطالعة جميلة وممتعة استاذ بسام خلقت لدينا نستالجية لزمن الطفولة الجميل .. سلمت يداك
كل المحبة دكتور منير