قراءة نقديّة في مجموعة د. لبنى المفتاحي:
“سيدي الأستاذ”
بقلم د. دورين نصر.
-×-×-×-×-×-
أحببت قبل أن أشرع بالتحليل أن أتحدّث عن القصّة بشكل عام، فنحن نعي جيّدًا بأنّها تتعيّن بوصفها تمثيلاً لحادثة. والحادثة تَحوُّل انتقال من وضع إلى آخر؛ فحادثة سير مثلاً تَحَوُّل يولّد الانتقال من حالة 1(سيّارة سليمة)، إلى حالة 2 (سيّارة متضرّرة)، ومع ذلك فحادثة السير ليست قصّة، ولا تُصبح قصّة إلاّ إذا مُثّلت، أو نقلها أحدهم (رواها – مسرحها – أنتجها فيلمًا…) وفي القصّ récit مكوّنان جوهريّان: الحكاية histoire والسرد Narration. الحكاية اصطلاح، لا توجد في مستوى الحوادث عينها: إنّها تجريد، يدركها أحدهم ويرويها، وهي غير موجودة في ذاتها. الحكاية إذًا، هي الحادثة مرويّة بتعاقبها الزمني، وبتفصيلاتها، إنّها مادّة القصّة، أو مادّة الحكي وموضوعه.
وهكذا، فإنّ حادثة غير ممثّلة ليست بقصّة، وتمثيلاً من دون حادثة لا يؤلّف قصّة، إنّما هو وصف. أمّا السرد فهو القناة التي تعبر بها الحكاية من راوٍ narrateur إلى مرويّ له narrataire (المرويّ له ليس هو القارئ، المرويّ له وهميّ، وقد تكون شخصيّة روائيّة، أي داخل الحكاية، كما قد يكون من خارج الحكاية، فيكون مجرّد مستمع إلى حكاية ليس هو فيها، وإذا لم يتعيّن المرويّ له بأيّ إشارة فمن الممكن اعتباره، حينئذٍ، القارئ المحتمل). وهو (أي السرد) يكشف عن خيارات الروائي auteur التقنيّة عند تحويله الحكاية إلى قصّة، ويشمل الراوي، التبئير focalization أو المنظور perspective.
الكاتبة التونسية د. لبنى المفتاحي
والواقع، تُنظم القصّة بَدءًا من نهايتها؛ فالوضع الأخير هو الذي يوجّه سلسلة الأحداث السابقة كلّها. فنحن لا نروي حكاية إلاّ لحصول تحوّل في لحظة معيّنة، فماذا نفعل لنستخرج البنية العامّة للقصّة؟
أوّلاً، نكشف عن الوضع النهائي.
ثانيًا، نبحث عن الوضع الأساسي المقابل والمتناظر مع الوضع النهائي.
إذا لم ننظر إلى الوضع النهائي فلن نستطيع تعيين الوضع الأوّل. وهذا الوضع الأوّل لا يكون في الفقرة الأولى، بالضرورة، ولا في الفقرة الثانية.. إنّما يعيّنه التحليل بدءًا من الوضع الأخير. وهكذا، ففي القصّة الثانية من المجموعة “وهي اغتصاب أمل” نلحظ أنّ الوضع الأخير يكشف عن علاقة سابقة بين سجود ومحمد،وهذه خاتمة القصّة:
“وبعد محاولات كثيرة من محمد للعودة إلى حضن سجود وقد اعترف بحبّه لها الذي اكتشف بعد زواجه من امرأة أخرى وأنّها دائمًا في باله ولم تفارقه للحظة وقسوة الندم التي يعيشه. وبعد تركه لها طويلاً قال لها: اعذريني لقد أصبحت لديّ امرأة أخرى وقلبًا آخر ومستقبلاً آخر فماذا عن حياتكِ أنتِ. أغمضت عينها تخفي دموعها. ومرّ شريط ذكرياتهما سويًّا كسرعة البرق، تذكّرت فيها كيف كانت بجانبه بأوقات حزنه قبل فرحه بلحظات يأسه قبل نجاحه وكيف رفضت كلّ رجال العالم من أجل أن تظلّ معه. فاستجمعت قواها وقرّرت الحفاظ على بقايا كبريائها وقالت له: أعذرني سيدي، هل أعرفك؟”.
غلاف المجموعة القصصية للكاتبة د. لبنى المفتاحي
في هذا النّصّ قصّة كبرى وهي العلاقة الفيسبوكية التي جمعت بين سجود ومحمد وأخذت عدّة تحوّلات تراوحت بين الرضوخ والاستسلام للحبّ من جهة والمقاومة من جهة أخرى. لذلك الترسيمة تكون على الشّكل التالي:
المرسِل الموضوع المرسل إليه
سجود (التمزّق بين الوهم والواقع) محمد
المساعد الذات المعاكس
+ الأم (الحب) الحنين / الذكريات
+ الفيسبوك
+ الصديقة زينون
+ بسام
فالقصّة، متعدّدة الأصوات، إذ فيها رؤية الخضوع والانهزام في الحبّ تُمثّلها سجود، ورؤية التسلّط في الحبّ وإشباع الرغبات الجسديّة يمثّلها محمد.
والواقع إنّ التمزّق الداخلي الذي عانت منه سجود هو الذي سيطر على السرد إذ كان المُعيق في متابعة حياتها بطريقة طبيعيّة. فأصوات الذكريات الخلفيّة الهاربة في الخطاب الداخلي للشخصيّة كشف عن حالة القهر التي كانت تعيشها .فتعاضدت الوضعيّات المختلفة في القصّة لتكشف عن البعد العمقي للنّصّ المتمثّل في التقابل الدلالي بين العجز عن مقاومة الحبّ وسلطة الحبيب: وهكذا، إذ كشفنا عن التحوّل الجوهري في القصّة، وتاليًا عن التعارض أو التقابل الدلالي الذي هو من المستوى الموضوعاتي، فسنجد له تقابلاً يماثله في مستوى الأفعال (=المستوى السردي) وتقابلاً في الحالة، إذ تحوّلت حالة اللّقاء في بداية القصّة إلى حالة هجر وفِراق في النهاية.
أحببت في الواقع أن أتّخذ من هذه القصّة نموذجًا للتحليل مع الإشارة إلى أنّ موضوع المرأة بين القهر والمقاومة كان هو المشترك بين كلّ هذه القصص.
في القصّة الأولى سيدي الأستاذ، نحن أمام امرأة مناضلة اسمها سحر أحبّت أستاذها بصدق وتبادلا أجمل الّلحظات بيد أنّ القصّة انتهت بموت الأستاذ بعد صراعه مع المرض. ولفتني بناء القصّة إذا شعرنا أنّ الكاتبة تبني قصّة داخل القصّة وهذا ما يسمّى بالتضمين السردي، وتتلاعب بخطّ الزمن الذي يهمين عليه.
أمّا القصّة الأخيرة عفراء، فتحكي عن طفلة يتيمة حوّلتها الظروف إلى سندريلا، تكافح وتناضل من أجل البقاء. ويبقى التساؤل:
هل يمكنني أن أدرج هذه القصص ضمن القصّة القصيرة ؟ انطلاقًا من اعتبار أنّ كلّ ما يُشفّر ويُحمّل بدلالات في منظومة ما يُعتبر من السيميائيّة، وبما أنّ القصّة نسيج من عناصر متنوّعة ومتضافرة، قد تكون نسب توافرها دالّة، لذلك، تُحصى سطور القصّة، وتُعزّز عناصرُها، ويكشف عن نسبة كلّ منها في القصّة، وتوزّع على جداول، تُصدّر خاناتها بالعناوين الآتية: العنوان – عدد السطور – سرد – وصف – حوار – خطاب مباشر – خطاب غير مباشر – مناجاة – تدخلات الكاتب، وبعد ذلك تفك الشيفرات ويجري الاستنتاج. هل يمكن توظيف هذه العناصر في قصص لبنى المفتاحي؟
د. دورين نصر