الشعر التفاؤلي
عند سلمان زين الدين
قلما يستطيع شاعر، أن يظل متفائلا في ديوان شعري بكامله. قلما يحتفظ شاعر بطفولته، حتى الربيع الأخير. بل قلما نجد شاعرا، يغني الطفولة على كبر، بروح تفاؤلية،وكأنه في أول العمر. وأمامه جميع ملاعبها. وبين يديه ألعابه المسلية. وهو يحتفظ بأقلامه الملونة. وبدفاتر رسوماته، التي تزينت بذكريات الطفولة الجميلة.
وحده شاعر الطفولة، بل الشاعر الطفل، “سلمان زين الدين: تفاح. شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. بيروت.105 ص. 2023″، إستطاع أن يجمع أخيرا، في هذا الديوان الذي بين يدينا، بين شعرية الطفولة وشعرية التفاؤل، وشعرية الذكريات الجميلة. فبدا شغوفا بكل ذلك، وكأنه يغني أيامه الحلوة، ويستعيد ذكرياتها، حتى لكأنه لم يبرحها، ولم تبرحه، كل هاتيك الحقبات الماضية.
” لزمان الوصل/ في أندلس العمر/ مكان في فؤادي/ لا يجاريه مكان/ فسقاك الله/ يا ذاك الزمان.”
حب عارم طروب بالحياة وبالذكريات، هو ما يطالعنا، ونحن، نقلب صفحات ديوانه: تفاح. يؤسس على تفاحة آدم وحواء، ثم يمضي يومه، من زمن البدايات، إلى زمن النهايات، وهو يستعرض لوحاته الحياتية التي قطعها، قصيدة قصيدة. مثل طائر ينقر حبة ويطير بها إلى الأعالي. حيث اللعب مع الريح. مع الذرى. مع الفضاوت التي تصنع شعر الشاعر، وهو يلهو بالقصيدة، كطفل يحط خطا منكسرا، على دفتر الرسومات.
” عندي من الأشواق/ ما يكفي لأيام الشتاء/ راكمتها عبر الفصول/ وصنتها عما يميت الشوق/ في عرس اللقاء.”
غلاف الديوان
سلمان زين الدين، يفجر ذاكرته كلها في ديوانه تفاح. روح دعوبة. وقلب له شراع بحار وجناح طيار ومحراث فلاح. يغني لنا، طيلة وقته، تفلت الزمن بين أصابعه، مثل ماء. يعصر الحبر. يوشي به الطاقات والدروب والساحات، والأعمار الهاربة، إلى الأزمنة التي تستظل فؤاده، والتي أعيا بها.
” من زمان/ آدم المسكين يمضي/ مسرعا في قطفه التفاح/ كي يطفئ جوعا/ أيقظته القضمة الأولى/ وراحت ناره تذكو لهيبا/ كلما أرخى لساقيه العنان/ أدمن القضم وأضحى لعبة/ يلهو بها تفاح حواء/ الذي إزدان به/ حقل الزمان.”
ما عرفت شاعرا تستغرقه البدايات مثل الشاعر سلمان زين الدين. ينسل خيطان طفولته، ثم ينسجها لنا قصيدة دعوبة، تتراقص بنا، ونحن نرددها، مثل تلاميذ مدرسة وطنية. مثل تلاميذ مدرسة رسمية. مثل تلاميذ الإبتدائيات والثانويات، وكأنها كتبت لهم كنشيد يغنونه، عند بوابات الإياب.
” كل عام وأنت معي/ كفؤادي المعلق في أضلعي/ أو كظلي الذي سيطيل المكوث/ إذا ما مكثت/ وإما سعيت/ يجد السعي…/ فنخوض غمار الحياة معا/ ونلبي النداء/ لعشق الجمال/ وورد المحال/ وسبر الوعي.”
أشعار طفولة تتراقص على حبال الشعر. تشد عموده إليها. ليكون أقرب من قلبها. ليكون أقرب من حياتها. يدع القصيدة لهم. ثم يذهب إلى بيتها. فأبيات القصيدة، أكثر ترنما من سنونوات الربيع، حين تأخذها الأنسام، ذات اليمين وذات الشمال. ثم تراها فجأة، تصدح الريح.
“من زمان/ كان شوقي جدولا حرا طليقا/ ماخرا بحر المكان/ وهو اليوم ويبقى درة الشعر/ التي يزهو بها تاج الزمان.”
الشاعر سلمان زين الدين خلال توقيع ديوانه ( تصوير يوسف رقة )
سلمان زين الدين شاعر الترنم. شاعر القصيدة المترنمة بأبيات. تذوب عذوبة من أفواه المنشدين المشدوهين برقتها. إنها رقة الشاعر المتفائل. إنها رقة الشاعر الطفل. إنها الطفولة الرقيقة، كزهرة برية على حوافي الطريق، تختبئ خلف حجراته العصافير. وتختبئ تحت حجراته بذور شقائق النعمان وحبوب سنابل القمح، وحبيبات ندى سنوات العمر الرشيق.
” الثرى الغارق/ في بحر الكرى/ أجسادنا/ تلك التي نامت/ على مر القرون.”
رقة وعبثية وصوفية وطفولة، في تضاعيف ديوان تفاح. هو الشاعر سلمان زين الدين، الذي لا يبرح ساح الشعر، إلا وبين يديه طاقات الزهر، يهديها كل عمره الجميل. يغني ما ضاع منه، حتى يجده في الطريق. ثم تراه يحوك القصيدة، كمرولة الطفولة التي تذهب صباح كل يوم إلى المدرسة.
” لا هاتفي/ يصحو من النوم العميق/ ولا قناديلي تنام/ وأنا وحيد/ في مهب الليل/ أجترح السهاد/ معللا نفسي/ بفجر قادم حتما/ على جنح الظلام.”
قصائد مثل أناشيد الطفولة. مثل شعر التجاريب المبكرة. مثل أغاني الرقص في الأمسيات. يحلو له أن يصنع الغرابة، من حكايات الناس. من كتب الحدوثات والأحاديث. من تلابيب الخرافات، وتضاعيف الأساطير. كأنه لا يتعب، حين يعب من الكاسات، وحين ينثر الزهر أجنحة من فراشات.
” لم يعد لي/ صديق سوى الكلمات/ أفيء إليها إذا ما إعترتني/ شؤون المكان/ أعوج عليها إذا نازعتني/ شجون الزمان/ فأفضي إليها بسر شجوني/ وبين يديها تفيض شؤوني/ فتصغي إلي/ وتحنو علي/ فتنأى مشاغل أيني قليلا/ وتدنو كثيرا قطوف الأوان.”
سلمان زين الدين، شاعر لا كالآخرين. يخبط نبعة الشعر بكفيه، ثم يقدمها لأغراسه وردا وياسمين.
” المكان الذي قد رجعت/ إليه غداة غياب طويل/ هو غير المكان الذي/ قد تحلت عن أرضه/ حين جد الرحيل/ وزمان الضحى/ هو غير زمان الأصيل./ وأنا لم أعد مثلما كنت/ حين دعاني الجميل إليه/ فرحت ألبي نداء الجميل.”
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين