صلاة الثورة وحوت الحرب
(قراءة أولى في مسرحية”٣٣ صلاة في جوف الحوت” للأديب المسرحي يوسف رقّة)
-×-×-×-×-
كتب د. جوزاف الجميّل :
٣٣ صلاة في جوف الحوت
مسرحية للأديب الصديق يوسف رقة تجمع بين الواقعية والملحمية .
الواقع مستوحى، كما يقول الكاتب، من حرب تموز ٢٠٠٦.
وحرب تموز التي شنّتها قوات الاحتلال الإسرائيلي غدت ملحمة تصوّر صمود المقاومة اللبنانية، في وجه آلة الموت العدوة.
فما أبعاد هذه المسرحية الملحميّة؟ وما علاقتها بالواقع؟
عتبات النص
نبدأ عتبات النص بالعنوان:” ٣٣ صلاة في جوف الحوت”.
الرقم ٣٣ يحمل في مدلوله الأول عدد أيام الحرب التي شنّها الاحتلال الإسرائيليّ على لبنان،
من ١٢ تموز إلى ١٤ آب.
هذا في الواقع. أما البعد الملحميّ فيقودنا إلى عمر السيد المسيح، حين قاده اليهود إلى الصلب، في عملية الفداء المعروفة. وبذلك يتجاوز الرقم ٣٣ بعده التاريخي إلى بعد ملحميّ يكشفه المعدود صلاة، بما يرافق ذلك من شعور نفسي بقلق الموت الذي رافق الحرب على لبنان. قلق دفع الإنسان المحاصر، في بيروت خصوصاً، إلى الصلاة طلبا للأمان العلوي، بعدما غاب الأمان الأرضي، وانتشر الموت والدمار.
أما جوف الحوت فيأخذنا في دلالته الأولى إلى بيروت المحاصرة، تحت النار والدمار. وتنقلنا الدلالة الثانية إلى قصة النبي يونان الذي حاول الفرار من رسالته، وهي أنه بعد أربعين يوماً، تدمّر نينوى بسبب فسادها. وحين حاول يونان الهرب، ابتلعه الحوت لمدة ثلاثة أيام. وتكرار الرقم ثلاثة إشارة إلى سفر
الرؤيا ، 33 هي رسالة دينونة الله.
وكأن الحرب التي استمرت ثلاثا وثلاثين يوما كانت، بحممها وقسوتها، أشبه بيوم الدينونة.
الكاتب المسرحي يوسف رقة وغلاف مسرحية ” 33 صلاة في جوف الحوت “
أما الغلاف فيقدّم لنا إطاراً متشحاً بالسواد، يصوّر ستارة مسرح فارغ من الممثلين. وكأنّ ما حصل في أيام الحرب مسرحية مأسوية كبرى، كما المسرحيات اليونانية، يموت فيها أبطالها، في نهاية العرض. ولكن الصورة، من جهة مقابلة، تذكّرنا بگتاب “الفضاء الخالي ؛ للكاتب الإنكليزي بيتر بروك
أو ما ينبغي أن يٰسمّى “الفضاء الذي يجب أن يُملأ “. وقد ملأه الأديب يوسف رقة بالصلاة.
وصلاة رقة هي نفسها صلاة يونس أو يونان، الذي أقام في بطن الحوت ثلاثة أيام، قبل أن يخرج ليكمل مهمّته الإنقاذيّة.
في المشهد الأوّل من المسرحيّة قبّعات تتكلّم. وللقبّعات رمز مهمّ في الفكر الفلسفي العالمي، إذ يتحدّث الكاتب إدوارد دي بونو في كتابه عن القبّعات الست. وهي قبّعات التفكير، في مختلف سماته العلميّة والمنطقيّة والعاطفيّة…
وقد اختصرها الكاتب رقة في قبّعات ثلاث، اختلفت فيما بينها على توصيف المشهد السياسي المحلّي والعالمي، ولكنّها اتفقت على واقع الحرب/الحوت.(ص ١٦)
في المشهد الثاني شخصيات ثلاث أيضاً: حنان وولداها زهرة وأدهم. وللأسماء دلالات الحنان والرقة والسواد. وكأن صفة السواد المرتبطة باسم أدهم إرهاص بما سيأتي لاحقاً، في حرب تموز.
شخصيّات المسرحيّة تُعدّ على أصابع اليد الواحدة. ولكنّ الشخصيّة الأولى هي الراوي، غائب حاضر، دائماً. يكشف الأحداث، يتفاعل معها عبر مرآة الذات. والمرآة قد تنكسر حينا، وتجلوها المأساة حينا آخر.
وتتسع دائرة الرؤية والرؤيا، في ذات الراوي/ المؤلّف الذي يأبى أن يموت، إرضاء لرولان بارت، كرمى لعيني جان بول سارتر. إنه الراوي الملتزم قضيّة الإنسان، في بحثه عن المطلق.
أما الأمكنة فميزتها الانغلاق، داخل القطار، أو في المنزل. والقطار في المسرحية منزل متنقل يخضع لعبثيّة السفر، وانغلاق الرويا.قطار كما الحياة، لا محطات له، ولا استقرار. مساره”الأنفاق المظلمة”(ص ٦٢)، وحلم الوصول.
مكانان آخران يظهران في المسرحيّة، هما المكتبة وفلسطين. وميزة هذين المكانين ارتباطهما بالحلم، والرغبة في إثبات الذات. تلك الذات التي تضيق بها الأرض برحبها(ص ٧٠)
يوسف رقة، أيها الأديب الثائر على جمود الحياة، وعبثيّة الموت، شخصياتك جزء منك، ومن ذاتك القلقة. شخصياتك تدخل عالمك الإبداعي، ترسم قدرها بمشيئتها. تحوّلك إلى مخرج حياديّ يحاول أن يدير حلبة الصراع، بلا جدوى. والصراع حتميّ لا محالة. إنه صراع سيزيفيّ بامتياز. ولكن السيزيف اليوسفي سعيد بدوره العبثيّ والشقاء.
٣٣ صلاة في جوف الحوت مسرحية رمزيّة نقلت الحدث التاريخيّ من حرب تموز ٢٠٠٦، إلى مسرح الحياة المثقلة بالعبث، في محاولة لإذكاء روح المقاومة، والتشبث بالأرض/ الوطن/ الإيمان.
صلاتك، بل رسالتك، أيها الصديق اليوسفي ضد الحرب؛ ف”الحرب بشعة”(ص ٩٣). ولكن النزوح وفقدان الأرض أشد بشاعة وإيلاما والأفضل”أن نعيش داخل شجرة البلوط..أو تحت أشجار الزيتون” ، بدلا من الهجرة أو التهجير؛ لأن “الأرض
.لنا”(ص ٩٤)وكرامة الوطن والإنسان فوق كل اعتبار.
د. جوزاف ياغي الجميل
الناقد والكاتب د. جوزاف الجميّل