حديث مع مرآة في الصالة الرياضية
بقلم : د. بسـّـــام بلاّن
-×-×-×-×-×-
منذ أكثر من شهرين، قررت العودة للتدرب في الصالة الرياضية، وقررت الإنتظام بالتدريب وعدم الإنقطاع مثلما كنت أفعل سابقاً، خاصة أنّ طريقة وأسلوب حياتنا كل شيء فيها يدعو للتكاسل، مما سينعكس آجلاً أم عاجلاً على صحتنا، التي هي أثمن ما نملك.
طبعاً، أنا لست هنا بصدد الحديث عن الرياضة وفوائدها، فهي معروفة لتسعة وتسعين في المئة من الناس، وإنما هي محاولة للحديث عما رأيته في الصالة، حيث ستلتقي فيها بمجتمع كامل متكامل. صحيح أنّ ما يجمع بينهم غرض واحد، ولكنهم بالتأكيد يختلفون في طريقة وأسلوب تحقيق الغرض.
……….
أولى الإغراءات التي تُجمع الصالات الرياضية على تقديمها للمرتادين، خصوصا الجدد منهم، تتمثل في شيئين. أولهما الصور الكبيرة “البوسترات” المعقلّة على الجدران والممرات وأينما يلتفت “الزبون” لرجال وسيمين بأجساد متناسقة قوية صلبة، تظهر من خلال الملابس “الكت”، صُورت بحيث توحي لناظرها بأنه على موعد قريب بأن تحمل صورته ذات المواصفات، فيبدأ بتخيل نفسه بعضلات منفوخة، تكاد تكون تفاصيلها مرسوة بريشة فنان ماهر.
أما الإغراء الثاني هم المدربون. فهؤلاء من الرياضيين المحترفين المقدودة أجسادهم بحيث تجعل الشخص الواقف أمامهم لايفكر بشيء في الدنيا، إلاّ ان يصبح مثلهم ذات يوم. ويتجلى هذا الشغف عنده ببدء طرح الأسئلة. وغالباً أول سؤال يطرحه على المدرب هو: برأيك كم أحتاج من الوقت والتدريب كي أصبح مثلك.. أو على الأقل جسمي يشبة ولو قليلاً جسمك؟
فيرد المدرب بابتسامة مملوءة سخرية واستهزاء، خصوصا إذا كان الواقف أمامه رجلاً تجاوز الأربعين. ثم سرعان ما يتدارك نفسه ويشجعه بالقول إن كل شيء ممكن. أما المدة الزمنية التي يطرحها، فغالباً ما تتفاوت بين مدرب وآخر.. أحدهم قد يقربها لشهر واحد أو شهرين، والمنطقي قليلاً يبعدها لما بعد الستة أشهر، شريطة الالتزام بالتدريب والتعليمات والبرنامج الغذائي. وهنا يقترح عليه تسجيل نفسه مع مدرب خاص يتولى تدريبه وتقويم جسده وتشذيبه.. وخلال شهر أو شهرين سيرى نتائج خارقة.
البعض يقبل العرض، فيدفع زيادة على الاشتراك مابين 500 – 1000 دولار ثمناً لهذه الخدمة، والبعض الآخر يتريث ويفضل إكتشاف هذا العالم بنفسه رويداً رويداً.
………..
في الصالة الرياضية، بين الأجهزة على اختلافها والأوزان الحديدية بكافة أشكالها ونماذجها، وشاشات العرض التلفزيوني، والموسيقا الصاخبة، ثمة أناس من كل شكل ولون. وهؤلاء بالضبط من أريد الحديث عنهم.
……….
مرتاد الصالة الجديد المتحمس، أول ما ستقع عيناه على الأشخاص الذين أمضوا ربما سنين في التدرب والمواظبة. وبالفعل وصلوا الى نتائج مهمة. وهؤلاء منذ لحظة دخولهم الصالة يعرفون بالضبط ماذا يريدون وما هي الأجهزة التي يستخدمونها، ولأي غاية أصلاً أتوا.
أما الذي لم يحسم قراره بعد، فبالاضافة لمتابعة صنف الناس السابق ذكره، تبدأ عيناه بملاحقة أشخاص تجاوزوا الأربعين عاماً من عمرهم وقد بدأوا للتو ويبدو التعب والارهاق عليهم. وهؤلاء في غالبيتهم مبتلون بسمنة أو سمنة مفرطة، فترى أحدهم بكرش يتقدم صاحبه بثلاثين أو أربعين سنتيمتراً.. وترهلات في كل مكان بالجسد يحتاج كي يقوّمها، الى عجن هذه الكتلة اللحمية وإعادة صياغتها من جديد، فربما يُوفق.. وإن كان غير محظوظ فلفساد الأعمال ألف سبب وسبب.
……..
أما القاسم المشترك بين هاتين الفئتين، والفئة الثالثة التي بينهما، هي تلك العلاقة مع المرآة. ومعروف أنّ جدران الصالات الرياضية كلها مرايا، وهذا الشيء لم يوضع عن عبث، فله الكثير من التأثيرات النفسية والفزيائية والسلوكية إن شئت.
……….
بعد مضي أيام قليلة من مواظبتي على الصالة، رحت أرقب بإختلاس وحذر تصرفات هذا المجتمع، وكانت دائما تلفت نظري علاقتهم مع المرآة.
في الصالة يقع المتدرب بغرام المرآة.. لدرجة تشعر معها أنه أتى خصيصاً لملاقاتها دوناً عن أي شيء آخر.. فكل حركة أو تمرين يقوم بهما المتدرب، ينفذهما إما أمام المرآة أو أنه يتوجه إليها مباشرة بعد الانتهاء من عمله ليبلغها بما قام به، ويسألها إن كان قد ظهر مفعول ما قام به على جسده. فيبدأ بشد عضلات صدره أو ذراعية أو ساقيه ليرى التغييرات فيها، وربما ليقارنها بتلك الصورة المعلقة على الجدار أو صورة المدرب الذي أعجبه. والمرآة عموماً ماكرة مُخادعة فهي تتغلغل في النفس وتعرف ما الذي يفكر به الشخص، فتبدأ بتشكيل صورة تعكس ما في نفسه على سطحها الأملس الصافي. فيبتسم لها المسكين ويقع في غرامها أكثر.
في هذه الزحمة، حصل أن التقطت “لينك” خاصاً مع واحدة من هذه المرايا. وأدركت حينها كم أخطاتُ طيلة حياتي عندما كنت لا أرى فيها سوى قطعة زجاجية جامدة لعكس الصورة أو الخيال وحسب. أدركت لحظتها أن المرآة من لحم ودم ومشاعر، فضلاً عن أنها ماكرة جداً.
أما ما سيثبت كلامي، فهو تعريفها لغوياً. فالمرْآة هي ما يرى الناظر فيها نفسه. فـ “الناظر لها يرى نفسه”، وليست هي التي تريه نفسه. لذلك يرى عليها ما يريد أن يراه، أو ما يرغب برؤيته.. وهنا تبدو احتمالات المكر والخداع عالية وكبيرة جداً.
يقول المثل: “تُخبر عن مجهوله مرآته”؛ أي تُخرج للملأ ما في باطنه. وربما من هنا جاء القول المأثور: “اللغة مرآة الفكر” (…).
في لحظة تأكد لي أن المرآة فهمت ما في داخلي، وأبدت كل رغبة لمساعدتي وإخباري بما أريد معرفته. وبدأ ذلك بإبتسامة خفيّة منها وغمزة، إلتقطتهما عندما كان شاب أربعيني يعاني من سمنة مفرطة يقوم بنصف أو رُبع التمرينات التي يطلبها المدرب، ويهرول إليها ليتفحص التغييرات التي حصلت على جسده خلال ثلاث أو اربع دقائق.
أومأت إليّ طالبة مني الاقتراب.. لبيّت دعوتها وراحت تهمس لي: هل ترى هذا الرجل؟. هززت رأسي لها بـ “نعم”. قالت لي: تعرفت عليه منذ عشرين يوماً، من أول مرة ارتاد فيها الصالة. هذا الرجل يمكث في الصالة كل مرة ما بين ساعة – ساعة ونصف.. يمضي أكثر من ثمانين بالمئة منها أمامي. والعشرين الباقية نصفها للتدريب ونصفها للراحة. نظرت إليها باستغراب. فقالت: لا تستغرب أنا أقول الحقيقة، وإن شئت راقب بنفسك. وتابعت: ألم تلتقِ بمثل هذا الرجل في الحياة العادية؟. هؤلاء الناس لايقومون بالحدّ الأدنى مما هو مطلوب منهم القيام به، وهم يعرفون ذلك تماماً.. وبدلاً من مواجهة أنفسهم يتحايلون عليها بإطالة تأمل أنفسهم بالمرآة، التي تتحاشى مواجهتهم بحقيقتهم، خوفاً من غضبهم الذي قد يصل لدرجة تحطيميها.. فتقف صامته بلا حراك وتدعه يرى فيها ما يريد رؤيته. ولا تستغرب إن قلت لك إنّ هذا النوع من الناس يمثلون فئات واسعة؛ فمنهم الآباء ومنهم الأمهات والمسؤولون والمعلمون….. وأكثرهم من السياسيين.
إزداد اندهاشي مما قالت. فزادت: وهناك أصحاب العضلات، البارزة القوية، تابعهم أيضاً.. فهم لا يختلفون كثيراً عن الباقين. ولكن في نفوسهم أشياء أخرى، وفي بواطنهم معطيات وأحلام مختلفة، ولكنها لاتخرج عن السياق السابق. انتظر وسأريك بأم عينك صِدقَ ما أقول.
سألتها ما الذي سأنتظره؟. قالت بعد نصف ساعة سيأتي شاب بعضلات مفتولة وجسد قوي؛ فراقب تصرفاته.. وأنا سأتواطأ معك وأخبرك مافي نفسه.
أعجبتني الفكرة. لم ينته الوقت الذي ضربته، حتى دخل شاب في منتصف عقده الثالث. يبدو من اطلالته الأولى أنه أنفق عدة سنين على التدرب.
غمزتني المرآة أن أتابعه.
منذ اللحظة الأولى التي دخل فيها للصالة، توجه نحو المرآة وراح يستعرض أمامها بحركات متعددة. بيده وصدره ورجليه وخصره.. وكان بين الحين والآخر يطلق صرخة يسمعها الجميع. وقف دقائق أمامها ثم توجه لأجهزة التدريب. كان ينظر للأوزان الخفيفة باستهزاء. من فوره إلتقط وزناً يزيد على الخمسين كيلو.. وراح يتدرب به: “ون تو ثري فور فايف سكس”… ويصرخ بأعلى صوته: عععااااااااا.
لم أفهم شيئاً. وكل ما رأيته هو ابتسامة ساخرة على شفاه المرآة. قالت لي: هل تعرف أنه أنفق أكثر من ساعتين في البيت أمام المرآة قبل أن يأتي هنا؟. فقد أخبرتني بذلك صديقتي المعلقة في بيته. وكل ما سألتها عنه تقول، هو يفعل ذلك كل يوم، لدرجة أنّ المرآة أصبحت صديقته الوحيدة في هذا العالم.
قلت لها: أنتم عالم المرايا أمركم عجيب. ما دمتم تعرفون كل هذه الحقائق، لماذا لاتواجهون الناس بحقيقتهم؟
ردت: أخبرتك من قبل، نخشى غضبهم، وأن تنتهي حياتنا قطعاً متناثرة تحت الأقدام. فلدى الناس الكثير مما لا يطيقون سماعه، وهؤلاء من كل الفئات والاشكال والألوان.
جرّب مثلاً أن تواجه قوياً أو مستقوياً أو مغروراً أو أنانياً أو نرجسياً بجزء ولو بسيط من الحقيقة، بالتأكيد سيحطمك. ونحن المرايا ندرك ذلك جيداً، فنلجأ للمكر والمُخادعة كي نحافظ على وجودنا.
………..
المرايا قد تكون بشراً. لايضيرهم المكر والخداع كي يحافظوا على أنفسهم ووجودهم.
المرايا قد تكون هي الذات، ولكنها تنازلت عن ضميرها كي تخفف من أوجاعها.
المرايا قد تكون أباً أو أماً. ولكنهما بالغا في عاطفتهما فغيبا عقلهما، وبالتالي ضلّلا وغشّا.
المرايا قد تكون “وطناً” موهوماً. ولكنك لا تجد فيه إلاّ القيود والزنازين. فهي تسجن الروح أولاً.. ثم العقل، وتعتقل الإرادة تعسفياً بتهمة “إضعاف الشعور القومي”.
نادرة هي المرايا الصديقة؛ تلك التي إن قالت صدقت. وإن عاهدت أوفت.
………
هل عرفتم الآن لماذا أصبحت المرايا صناعة قائمة بحد ذاتها، وأصبح لها ماركات عالمية وحرفيون متخصصون في صقلها ونحتها وتزيينها؟.
أرجو ذلك.
الكاتب د. بسّام بلّان