“فانتازيات”
لماذا يوجد حمار وحشي وآخر أهلي؟
بقلم : د. بسّام بلّان
-×-×-×-×-
بعد الهجوم الذي نفذه مهاجرون بيض على قطيع من حمير الوحش “الزيبرا”، وحاصروه وجعلوه يرمي نفسه مرغماً فوق طوالع صخرية مدببة في جنوب أفريقيا، وبالتالي مقتل العشرات منهم، نجا من هذه المجرزة عائلة صغيرة أب وأم وإبن. وأثناء جلوس العائلة في أحد الكهوف للتشافي من الجروح، سأل الحمار الصغير أباه: لماذا يا أبي نحن معشر الحمير مقسومين الى قسمين؛ حمير أهلية وأخرى وحشيّة؟.
رد عليه أبوه: يا بني لقد كبرت ويجب أن أخبرك قصتنا كي لاتموت مع الزمن، وتنقلها لأبنائك وابناؤك ينقلونها لأبنائهم.
لقد كنا يا بني، نحن معشر الحمير، عشيرة واحدة وقوماً واحداً منذ أن وُجدنا على سطح هذا الكوكب. وكان أجدادنا الأوائل يعيشون بخير ورغد ولاينغص عليهم شيء. بقينا على هذه الحالة إلى أن وصل الى بلادنا قوم الضباع، واستطاعوا بشراستهم وبطشهم زرع الخوف في قلوبنا، وأخضعونا بقوة أنيابهم. استعبدونا وأجبرنا على القيام بكل ما يريدونه.. ورغم ذلك كانوا ينتقون كل يوم واحداً منا ويأكلونه بينما عيون الآخرين تنظر إليه بلا حولى لها ولا قوة.
استمر هذا الأمر لسنوات عديدة، إلى أن تجرأ أحد أجدانا وكان أشجع أخوته، على رفض مايجري وبدأ يحرّض أخوته على ضرورة الخلاص من عيشة الاستعباد هذه.
ومرة بعد مرة، استطاع اقناعهم بالأمر وخططوا جميعاً للخلاص من الضباع مهما كلفهم الأمر، ففي النهاية سيُقتلون جميعاً إن لم يكن اليوم فغداً. وضعوا خطة محكمة، وفي الليل بعد أن أكلت الضباع حماراً وغطت في نوم عميق، هاجموهم وانهالوا عليهم رفساً وركلاً الى أن أجهزوا عليهم. وبذلك تخلصوا من الظلم والاستبداد الذي عاشوه لسنين.
وقبل أن ينتهوا من احتفالاتهم وترتيب أمورهم جاءهم أربعة قرود ليقدموا لهم التهاني بخلاصهم ويثنون على شجاعتهم وجسارتهم في التخلص من الضباع. وطلبوا منهم السماح لهم بالعيش معهم لأنهم أيضاً يشعرون بعدم الأمان، وأن أرض الحمير لايمكن لأحد أن يتجرأ على اقتحامها بعد الدرس الذي لقنوه للضباع. وهكذا سمحوا لهؤلاء القرود مشاركتهم عيشهم وحياتهم.
ظلوا على هذه الحالة والأمور تسير على ما يرام الى أن جاءهم كبير القرود، واخبرهم بأنه سمع أن أبناء عشيرة الضباع الذين قتلوهم يهيؤون أنفسهم للانتقام منهم واقنعهم بضرورة تحصين أنفسهم والاستعداد لمعركة كبرى يدافعون بها عن حياتهم وحياة أبنائهم. إرتعدت أوصال أجدادنا لهذا الخبر وراحوا يتدارسون الأمر، فقال لهم القرد: أنا عندي خطة مناسبة للمواجهة. يجب أن تتدربوا على القتال وتتجهزوا بكل الأسلحة والعتاد، ونحن سنكون في أول صفوف حربكم.
بدأ القرد يخطط والحمير ينفذون.. بنوا القلاع والمتاريس، وتجهزوا بكل شيء للحرب.. وكانوا يحملون الأثقال على ظهورهم وينقلون ويعملون، بينما القرود جالسة مُترفة تخطط لهم، ولما انتهوا من بناء تحصياناتهم، كانوا قد أصيبوا بالتعب، فتقدم القرد الصفوف وصار حاكماً عليهم. ومع توالي الزمن أصبح القرد حاكماً مطلقاً بينما قبيلة الحمير لاتملك سوى العمل والعمل وكفاف يومها. وقد ساعد هؤلاء القرود بعض أجدادنا ممن عينهم القرد الأكبر قادة على الآخرين.
استمر هذا الوضع إلى أن خرج للجميع أحد أجدادي معترضاً، وواجه القرد بالكذبة الكبيرة التي مررها عليهم واستطاع من خلالها حكمهم بصورة أشد قسوة من حكم الضباع. وما أن انتهى من كلامه حتى أمر القرد قادته من الحمير باعتقال هذا الحمار الشاذ الذي سيهدم المملكة ويُمَكّن الضباع منها. وطلب زجه بالمعتقل.
مضت أيام على سجن جدنّا، وبدأ أبناؤه التحرك والحديث لاطلاق سراحه، ولكن دون جدوى. تحدثوا مع أبناء عمومتهم في الموضوع، فلقوا تأييداً من البعض ومعارضة من آخرين. واستمروا على هذه الحال، إلاّ أن اقتنعوا أنه لابد من الهجوم على السجن واخراج أبيهم بالقوة، وبالفعل نفذوا ما عزموا عليه. وما أن طلع الصبح ورأى الجميع ما حدث حتى قامت الدنيا ولم تقعد. وصارت القرود الحاكمة والقادة من الحمير تزبد وترعد على مخالفة القانون وتحديه، وراحوا يهددوا الجميع بأن ما فعلوه سيجعلهم يدفعون ثمنه غالياً.. وهنا كانت بداية المصيبة.. حيث اشتعلت الحرب بيننا فانقسمنا وزُرعت المتاريس على أرضنا، ولكي نميز بعضنا بعضاً إقترح جدي الذي كان مسجوناً بأن نرتدي لباساً مميزاً عن الباقين واختار هذا الثوب المُخطط، بينما بقي الفريق الآخر على ماهو عليه.
إستَعَرت الحربُ بين الفريقين، وسقط فيها قتلى وجرحى ومشوهين.. وكل يوم يفيق القوم على مصيبة وينامون على أخرى. فجدُنا المُخَطَطْ كان يقول: كيف لنا أن نقبل بأن يحكمنا قرد بكذبة، ونحن الذين قتلنا الضباع؟ لن نستسلم ولن نقبل بذلك أبداً. بينما أجدادنا من الفريق الآخر كانوا يقولون هذا الكلام غير مسؤول، وموقفكم هذا سيجعلنا لقمة سائغة للضباع..
وبينما الحال تزداد سوءاً وتفاقماً يوماً بعد يوم، جاء الى مملكتنا مخلوق لايشبهنا هو يشبه القرود أكثر مما يشبهنا، ولكنه مختلف عنا بكل شيء. عرّف نفسه على أجدادنا بأنه يُسمى “إنسان”. استطاع أن يستميل القرود، وأن يقنع أجدادنا بأنه قادر على إنهاء هذه الحرب بين الأهل الأشقاء. وافق الجميع على ذلك.. وفعلاً أوقف الحرب ووضع القرود في اقفاص وصار يلاعبها ويأمُرُها فتأتمر .. ويطلب من جميع الحمير الإمتثال لأوامره.
هنا رأى جدنا المُخَطَطْ أن التاريخ سيعيد نفسه؛ فرفض الإنصياع لأوامر “الإنسان”، وطلب من أتباعه ترك المكان والبحث عن مكان آخر لايحكمهم فيه أحد. وبالفعل هاجروا وتركوا كل شيء.
أما أشقاؤقهم وأبناء عمومتهم الباقين، خضعوا لشروط الانسان بأن يخدموه ويقوموا بكل ما يطلبه منهم، مقابل حمايتهم واشباعهم وإيوائهم في “زرائب” محصنة لايهاجمهم فيها أحد.
أما نحن يا بنيّ، سلالة جدك المُخَطَطْ الذي هام بنا في الدنيا رافضاً الاستعباد، أسسنا ممالك جديدة نحكمها بأنفسنا.. صحيح أن الوحوش تهاجمنا بين الحين والآخر، ولكن لايزال عدونا الأكبر هو “الإنسان”. تصوّر أنه حرّم أكل لحم أبناء عموتنا ممن قبلوا شروطه على أبناء جلدته، وحلل عليهم أكل لحمنا. ولايزال هذا “الإنسان” يطاردنا. غيّرنا أسمنا من حمار الى “زيبرا” ولم يتركنا بحالنا فأطلق علينا إسم حمار الوحش، ولايزال يطاردنا ليقتلنا. ورغم ذلك نشعر بالسعادة لأن أحداً لايركبنا ولايحرث علينا ولا يقتلنا برصاصة عندما نصبح غير قادرين على العمل والركوب و”السُخرة” له.
الكاتب د. بسام بلان