قتيل الشعر
لا تستطيع أن تقرأ قتيل الشعر،خليل حاوي، سواء في دواوينه السابقة، أو في: الديوان الأخير قصائد غير منشورة. دار نلسن- مؤسسة أنور سلمان. رأس بيروت.2023. تقديم الناشر سليمان بختي: 106 ص.)، إلا بعد أن تسلم، أن الشاعر فضل المعراج على المهبط. على الهبوط.
شاعر لا يعرف إلا التورط في التعب اليومي. وفي الحزن اليومي. وفي الألم اليومي. ولهذا ربما، نراه دائما يفضل العروج على الهبوط. كأنه يرفض العيش في القيعان، التي إستهوت أهلها. فإنتصر بإرادته على المعادلة الصعبة. نفض عن كتفيه غبار التراب، وعرج صامتا في ليلة دهماء، إلى حيث تجلس الروح في معراجها. فلا أسياف كليلة. ولا أنفاس متثاقلة. ولا أجنحة متخاذلة. وإنما الروح المتوثبة التي في إنائه، أطلقها. ففرت من عينه اليمنى، وعرجت إلى مستقرها. حيث الروح والحرية صنوان.
(يا صبية/ زحفت يداك/ عادت إلي العاصية/ صبية مكتهلة/ في منزلي/ الغائب / كنت ألقاه/ لست أدري/ إفصاح/ إغتصاب بلا دنس/ طبع القدر/ بلد القلوب الموصدة/ ركام/ عريق.)
كان من الضروري، أن نعرف عند خليل حاوي البدايات. العتبات. الخطوات. خصوصا، الأولى منها. فأولى بنا الإستشراف، على الإستغراق. مع شاعر نهل من الينابيع. وخرجت من بين أصابعه ماءة الشعر الرقراق المصفى، الذي يخالطه غبار الترب. غبار التراب.
أيقين أنها في منزلي/ كيف يخفى ما أرى ما أجتلي/ يمحي ظلي، وظني يغتلي.)
أو هكذا يقرأ خليل حاوي، بعد نصف قرن على غيابه، وهو واقف يرسم العتبة. ويهندس الخطوة. ويصفي العسل في الجرار. أو هكذا يريد أن يذوقنا الشعر في جراره الغائرة في قعر الروح، قبل دبيبها على الأرض. وقبل معراجها إلى السماء.
(بلد القلوب الموصدة/ بلد تحول عزمه/ غلا يغور ويبتني/ في كل قلب موقده.)
حقيقة، نحن مع خليل حاوي في فعل الدهشة، إنما ننصت للرنين.
(عاينت في الوجوه/ وجه صبي يحمل العمر الذي/ أتلفه أبوه.)
الحروف التي ترن على عتبات الشعر، حقا هي أقوى من الشعر المسجى في الدواوين. حقا، هي أقوى من الشعر القتيل.
( كنا جدارا يلتقي جدار/ ما أوجع الحوار/ ما أوجع القطيعة/ تغص بالفجيعة/ ما أوجع الحوار).
لماذا تستهوينا إذا، هذة المجموعة من القصائد غير المنشورة عند خليل حاوي، في الديوان الأخير؟. نهرب من هذا السؤال العالق في أنفسنا، لنكون أما سؤال جديد: هل الشعر، إلا بداية الطريق إليه. فكيف نهتدي إلى الشعر، إذا لم نتلمس أنفسنا، بأنفسنا. إن لم نتلمس خيط الدهشة في عتاباته الأولى، حيث مستودع الأمانات.
( شو قولكم؟ هالدرب كلا طلوع/ ومازال بعدو نهار/ ما زال نمشي وكل ساعة قطوع؟/
شد حيلك عالتعب والجوع/ ما عاد في مهرب ولا في رجوع/ سلاحك عجنبك/ والرفاق كتار/ وبكير رح تقفوا الجبل، بكير/ وخلف الجبل بتصير/ الدرب مرجة والورود غمار.)
غلاف الديوان الأخير للشاعر الراحل خليل حاوي
يستودعنا خليل حاوي، في الديوان الأخير، بعض روحه حين تنزلت للبيات في الأبيات. تلك هي ليلة بيضاء. كان الغمام يهل مع الفجر اللجين في كاسات الشعر، ويسكبها في إناء خليل حاوي الطويل، حتى الرسولية، ومعراجه الأخير. فنحن نقر اليقين الذي أقره، ذات عين قرأت. ذات عين أطلقت. ذت روح عرجت. ذات سماء، كانت تستقبل الأنبياء، دفعات دفعات.
(وجوههم وجوههم/ تطل من أصفارها المدورة/ تحيط بي مركومة مكررة/ تغزو ركام المهملات/ ما فات غربال الرواة.)
كيف للروح أن تستقر على أفق الغيب الساخن مثل الصفيح. إستوت عليه حتى النضوج. ثم تكورت. ثم إندحت. دحتها الرسولية ، ذات شعر، إنبلج صباحات صباحات، فوق أقداس. يملأ الكاسات مثل أجران. تقول يداه، ما لم تقله الأبجدية بعد. تقول الرواسم. تقول الرواشن. تقول البراعم. وفي هذا الديوان الأخير، برعم الشعر. نفض عنه الشهد، وشق طريقه في معراج الروح. يفلق الأرض عن غمامتها البيضاء. فيبيض صحن السماء.
(لست أدري/ كيف تصفو أسطري/ صفوة الوهج الطري/ أتراها إنسكبت/ من دفقة الينبوع/ لفظا ومعاني؟/ أم ترى صفيت لفظا ومعاني؟ عبر عصر يتمطى ويعاني/ ما يعانيه إجترارا/ في إجترار/ دون طعم الملح/ أو طعم البهار؟/.)
الشعر عند خليل حاوي في أجرانه، تجاوز. تجاور. يستدعي قصب الروح للعزيف. لا شيء في روحه المسكوبة ندى غيمة حبلى به، إلا الفرح والبكاء. إلا فرح البكاء. كيف يمضي الشعر إلى مستقره في ركن الروح. ثم كيف، إذ هو يعرج بها إلى السماء المطبقة، كطلقة عين من فوهة. تصوب الشعراء، أن يعرجوا بأرواحهم، إلى حيث هو في معراجه. يقول لهم الدرس المبتدا. يقول لهم الدرس الأخير.
( كانت تطل علي/ من أمسي/ وتطلع من غدي/ تحنو تطيع/ … كنت الشفيع/ وكنت قلبا يكتوي/ بضراوة حرى/ ويعصى المغفرة.)
خليل حاوي، قتيل الشعر. بعض تجليات هذا الديوان الأخير له. ثمة موت يومي فيه، حين إنبثق من ينبوعه، في عتبات الروح المشرئبة، مثل غابة من بكاء. طفل ضاع في غابة الشعر. ظل يبكي يومه حتى إهتدى. خليل حاوي، طفل من بكاء. كل القصائد المبتدئة، صرخة طفل. يخرج من رحم الظلمة الأولى. من رحم الطلقة الأولى، إلى طقس الضوء. إلى طقس الضياء. ثم ينفجر بالبكاء.
( جسد دون غلاله/ حوله ذابت متاهات المدى/ ومتاه الظن ما خلف المدى/ وصدى الأمس وغصات الصدى/).
نحن إذا، أمام بكائيات خليل حاوي الأولى. أمام صرخته الأولى. قبل شوط قطعه. قبل طلقة. قبل قطرة. قبل عين تنفجر، نبعة من دماء.
( كنت ألقاه/ غريبا غائبا/ يحتله ما لا أراه وأراه/ جسد ينصب/ من صحو رؤاه.)
الديوان الأخير لخليل حاوي، العتبة التي أنبته شاعرا مختلفا، “لا يستعير أصابع الغير. ولا يشرب من محابرهم”، كما قال فيه نزار قباني، ذات مساء.
بدأوا من ال “هنا” . فإبتدا من ال “هناك”. قتيل الشعر هو. ظل يحفر فيه حتى الكنوز في جرار الروح. حتى الشهادة، كما الأنبياء. يكتبون بأرواحهم قلائد الولادات. تعلق تمائم في أعناقنا، مدى الدهور، فعل شعر. فعل شاعر. فعل ينبوع فاض، ذات غيمة من السماء.
(تحيط بي/ مركومة بالمهملات/ تحيط بي مكرره/ أبخرة معجون/ في أبخرة/ من ضحكتي المزمهرة/ وضحكتي المدمرة.)
د. قصي الحسين
أستاذ في الجامعة اللبنانية.
د. قصيّ الحسين