الاعلامية والكاتبة كلود صوما تستضيف الشاعر نعيم تلحوق في ” ورد الكلام ” 🌹( خاص موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي في بيروت )
-×-×-×-×-
كتبت كلود صوما :
.. لا تزال ترتسم في ذاكرتي تفاصيل تلك الأمسية الشعرية “الشهريادية ” الجميلة التي دُعيتُ لحضورها في شارع الحمراء والتقيت خلالها بامير هذا القصر للمرة الاولى..
لم أتردد وبابتسامةٍ عريضة ، توجهت نحو هذا الانسان الخلوق والمتواضع وألقيت عليه تحية الوّد والمحبة .
إنه الشاعر المختلف الذي لم يدخل الأدب والشعر من باب الصدفة ، بل من باب قراءته للفلسفة والتعمق بها .. هو الباحث الدائم عن نفسه ، المؤمن بان الثقافة ترياق لجرح الوطن ..
وحين وضعت اسمه في لائحة ضيوف ” ورد الكلام ” ، كانت مهمتي صعبة دون شك ، لإقناعه بتشريفنا وتلبية دعوتنا إلى حديقة الورد , لسبر أغوار عطر هذا الشاعر المؤمن بأنّ الشعر هو الله دون زيادة ولا نقصان ..!
فكان هذا اللقاء مع الشاعر نعيم تلحوق :
1-قال مرة : ” لو استطعت اختصار اسمي( بحرفين ) لما تأخرت يوما اذ انه يتخلى عن الألقاب ” بالرغم من تاريخه ومجده ..
من هو نعيم تلحوق؟ كيف تختصر بداياتك من الطفولة والمراهقة ، في الضيعة ، مع الأهل ، مع الشعر والكتابة ؟
ج – أظنّك تعرفين نعيم تلحوق أكثر مني ، لا أعرف هذا الكائن الغريب ولا أفهمه ، أبعد ما أكون عنه عمّا أظنّ … الحكاية تبدأ بشهقة وتنتهي بدفق .. تبدأ ب ” أنا ” وتنتهي ب “نحن ” ثم باللا شيء … الصراخ الذي يولد فينا يكون غريماً لنا ، حين تكبر الأشياء وتنتهي وتنضج حدّ الاستواء، لا بدّ لها من إيقاع بعدها … إما أن تصير خمراً ، أو قضية كبرى … لذا ، كنت متأخراً على اللحظة التي كنتها ، وبقيت وحدي أرسم معالم الوجود الذي استولدني ..
دائما أتأخر عن التاريخ والمجد .. لذا عشت طفولتي أبحث عمّا اعتراني من شكّ في معنى أن أكون شيخاً أو فلاحاً أو حامل رسالة ، فاخترت بين كل هذا وذاك وتلك ، أن أكون العاشق المجنون الذي طوّع الفلسفة لمصلحة الشعر ، هنا بدأتُ ولكني لم أزل أبحثُ عن حبٍ عظيم أركنُ إليه ، لينقذني من ضلال العقول السليمة …
باختصار : أنا طفل عتيق يسكن غفوة الخمر ، ولعبتي تأخرت ، لم تصل إليّ بعد …
الشاعر نعيم تلحوق
2- في كتابك الذي صدر مؤخرا ” أرض الزئبق ” ابتعدت كثيرا عن الشعر لتذهب إلى سردية المعنى ، هل من مسافة بين الشعر والمعنى وكيف ترى علاقتهما بالحياة ؟
ج – أرض الزئبق ، كتاب شكّي في الهوية التي تحمل الفلسفة والشعر والرواية والفكر الماورائي .. إنه سردية تستولد فواصل البداية دون المرور بتصميم مسبق عن هوية النص الأدبي ..
فالكتاب لا يبحث عن جواب التصنيف ، بقدر ما يبحث عن سؤال الهوية … عمّا نحن ، ولماذا وكيف ، وأين ومتى .. وعندما لا يوجد لساكن المنزل اسم – أوهوية ، نكتب على مدخل المنزل : مجهول الإقامة …والأدب الذي لا بيت له ، لا روح فيه ، فلا حاجة لسرد باقي الرواية… …
نحن لا نعيش في ” وطن” ، وهذه الكلمة لم تصل إلينا بعد ، من لا وطن له ، لا هوية له ولا روح ولا شرف ، ولا بيت له … والباقي ” أرض الزئبق ” … على الاسم أن يكون صفة ، وإلا لا يكون … الله اسم لكل الصفات ، الاسم صفة وهو اللقب في آن واحد … هذا فيما يتعلق باللقب أمّا “السرديات ” فهي اختيار ظنّي للقارئ ، كي يبحث عن الصفات التي تشكّل الاسم …
لا أحد يعرف ما هو الشعر وما هو المعنى ، دائما المعنى سابقٌ عن الشعر ، لاحِقٌ له … فكيف يمكنكِ أن تقرري أنتِ نفسكِ ما هو الشعر وما هو المعنى ؟..أهديكِ ما هو أهم من جائزة نوبل إذا تمكّنت من مساعدتي في إيجاد تعريف واضح للشعر… لهذا تجرّأت ذات ندوة وقلت : الشعر هو الله …وهذا يكفي…
3- معظم قصائدك تتجه الى طرح أفكار فلسفية حتى في علاقتك مع المرأة والحب، ماذا تقول حول هذا الأمر ؟
ج – المرأة هي الأنثى التي تلاحق معناي ، الطريق إليها سهل جداّ ، لكن أصعبني الرجوع معها أو إليها … المرأة عالم جوّاني ناشيء عن الاهمال وقلّة الاهتمام بها منذ بداية الوجود ، إنها غلطة وجودية لا يلاقيها إلا السؤال والبحث عن المعنى … لذا على الرجل أن يكتب عن الأنثى التي هي الحب ، المكنون الجواني المشاكس فيه …وعلى المرأة أن تكتب داخلها ، لا عن رجل لا يستحقها …
ومن قال لك إن علاقتي بالمرأة كما علاقتي بالحياة ، حين تصبح الأنثى فلسفتي ، هي تتجاذب أطراف الحديث معي قبل وصلها … أما الفلسفة فهي تنتفي عن المرأة التي لا تسفر عن معنى …
أنا باحث عن امرأة تستولد فيّ المعاني ، لذا اخترتها فرساً للكتاب … هل من المعيب أن تكون الأنثى فلسفتي ؟ الحب عندي ثقة بالمرأة ، حين أثق بالمرأة ، يعني أنني أحبها حتماً …وليس بالضرورة أن ألفظ هذا المصطلح …. الحب هو الثقة بالآخر ، وحين تخذلني المرأة ، تخذلني الحياة ، المرأة هي الحياة …لست شاعراً دجّالاً أستعمل أدوات الزيف لأخلد إلى جمالها…المرأة التي لا أعشق نصّها – جسدها لا يعنيني جسمها بالمطلق…يجب أن تدركني المرأة لأحبها وأحترمها…أن تفهم عقلي لأكون سرّها الوحيد…يعني أنه يجب أن تتجسّد بي لأكونها…
الشاعر الشيخ نعيم تلحوق ( تصوير يوسف رقة )
4- هل يستطيع نعيم تلحوق أن يبوح للمرأة بكلمة ” أحبك ” خارج إطار قصيدة الشعر؟ أم هو يستصعب ذلك ؟
ج – توقعتك تنتظرين سكوتي ، فدهسكِ فمي … وهل هناك معنى أحلى من هذا القول كي أقول للمرأة ” أُحبك ” ؟ .. الصراحة تقتل المعنى ، يصير مستباحاً ، فلا يحق لمن لا يستحق المعنى أن يكون فيه …
قلت لها : ” يكفيني صمتك لأضمرَ غيابكِ … ولا شيء يدلّني عليك سوى سقوطي ” .. حين أسقط في قلب المرأة لست بحاجة لدليل أو مرشد ليقودني إلى قلبها … تصير هي قلبي … فكل ما يسقط من الحبيبة يروم إليّ ، أعرف أنّ السقوط هيبة …
5 – قال أحد وزراء الثقافة السابقين بأنٌ نعيم تلحوق هو طبّاخ ثقافي ماهر، ما هي آخر وجبة تحضّر لإطلاقها في وقت قريب ؟
ج -لا أعرف إذا كنت طباخاً ثقافياً أو أدبياً أو شعرياً ، أنا غير مملوك من أحد … روحي فراشة تحرس ضوءها قبل أن ترحل … لا شيء يحرسني سوى ظلي ، وهو الوحيد الذي يحمي عيوني من الزوغان … أنا الطفل الذي يرفض أن يكبر … المثقفون الجاهزون ، يكرهون طفولتهم ، لذا يصابون بإعاقة مبكرة ، يصبح الاستبداد والأنانية والانتهازية دلائل تشير إلى كره ذواتهم …أنا متصالحٌ مع طفولتي…
متصالح مع عالمي ومع عالم آخر لا أُسرُّ عنه … يصبح استبعادي للأشخاص والأحداث أكبر وأغنى … المتصالح مع نفسه يعرف كيف يصل إلى الآخر … يصدق مآله وذكاء روحه … أما ما يقال عني فلا أنظر إليه إلا لماماً …
أنا أصغر كائن في فضاء الأغنيات … لا أعرف من الوجود إلا اللعب .. بانتظار لعبتي التي تأخرت ولم تصل إليّ بعد … كما قلت لكِ …
6- بعد ” أرض الزئبق ” هل سيتمسك نعيم تلحوق برؤيته للفلسفة والكون أم أننا سننتظر تغيرات في نظرته للحياة ؟ بمعنى انه هل بقيت نظرتك كما وردت في الكتاب أو تبدلت بعض القناعات وبعد النقاشات والندوات التي أقيمت حول الكتاب ؟
ج – لا أعرف لماذا كانت الحياة تحسبني عليها ، ف “أّرض الزئبق ” مناخ رؤيويّ المعرفة، صادر عن العقل والنفس مجتمعين ، لا أعرف كيف أرسم تحوّلاتي … التحوّل الدائم هو من يبقينا على قيد الخلق ، أما المعرفة فهي مصدر هيولي له علاقة بالروح ، لا أدرك كنهه وأنا أتكلم معكِ الآن …
نظرتي إلى الوجود أعمق من نظرتي إلى الحياة … لا أفكر بالموجودات أكثر من الوجود … أقوم برحلة قصيرة قد يكون التحوّل أو التغيّر فيها قليلاً ، لكنه يبقيني على قيد النظر إلى ينبوع المعرفة لأغرف منه …
القصيدة والإشارة والنغمة والفكرة واللوحة هي التي ترسم حكايتي ، وهي دائماً سمّة خارجية لها مكنون خفي اسمه ” الطاقة العارفة ” … لهذا أفضل جسدي على جسمي حين ترتادني الفكرة ، نعيم تلحوق الجسم ، غيره نعيم تلحوق الجسد ، جسدي يثقل بدني بأحلام وأفكار وترّهات تغزو الفضاء الكبير ، لا شيء لدي اسمه الفراغ …
السكوت قمة المعرفة ، التأمل والهدوء والصمت أهم عوامل اللغة التي تضيء النص وتفجّره …
الشاعر نعيم تلحوق متأملاً ( تصوير يوسف رقة )
لذا ، أعرف أنّ هناك أشياء نلمسها ولا ندركها ، حواسنا ليست دائماً صحيحة ، قد نفهم الأشياء خطأ في أحيان كثيرة ، الحقيقة تكون في فهمنا للملموسات دون أن نصدقها ، علينا أن نفهم عالمها فقط والأمور تصبح أسهل بعدها …
” أرض الزئبق ” مسار قد يصمت ، وقد يعود إلى تفجير الكلام مرة جديدة ، النقاش لم يزل مستمراً، وأنا أصغي لما يتلمّسه الآخر في وجدان اللغة ، لأتعرف على معناي …
أنا نفسي لا أعرف ماذا يجول في ” أرض الزئبق ” .. لقد سألتني شجرة الكينا التي تطل بأغصانها على نافذة مكتبي : ” لماذا أنت هنا ؟ .. فقلت لها : لأنك جنبي ، أفرح حين تكتبينني ، فالحبر قلبي ، والمحبرة عجزي … وحين سقطت القهوة على ورقي ، فاح منها الهال ، وقع الهال على بدني ، ففاح منه عطركِ … ولكن حين وقع عطركِ على الأرض لم يجمعه أنفي .. بل فمي !! “
الحواس تتبدّل لتعطيك المعنى، يمكنك أن تري الأشياء من قلبك لا من عينيكِ…
7- بين نعيم ابن عائلة مشايخ آل تلحوق , ونعيم الشاعر والمثقف ، كيف تمزج بين الانتمائين وإلى أية بيئة تنتمي وانت الجالس في مقاهي شارع الحمراء بعيدا عن الريف ؟
ج – أنا ابن ريف سبق المدينة ، علاقتي بالمشيخة خارج مفهوم السلطة البطريركية ، أنا شيخ طريقة لا شيخ طبقة أو موروث موهوم … يشتدُّ عضدي حين أدخل كنيسة لأصلّي … وأصغي إلى صلوات المؤذن على أعلى قمة في قريتي … لست شيخاً دينياً على الاطلاق … تعرّفت على نفسي قبل أن أفهم لماذا الآخر بي ، فوجدت أن تربيتي قامت على أساس أنا الآخر … والآخر بي هو : أنت وأنا …
اجتمعت مفرداتي على صيغة ذهنية أقامت فهمها للموروث والآخر بشكل جيد … أحببت نموذج القيّم التي تربيت عليها في العائلة والقرية والمدينة … فأُصبِحت المدني الذي يستطيع أن يسكن أفكار الأرض دون أن أكره قريتي ونشأتي … أحببت التصوّر عن ” جدي الشيخ ” الذي يوزن الكلام قبل قوله ، الكريم النفس المعتد بأصالته … وأبي الذي راهن على خساراته أكثر من الربح فوضع خساراته بي ، لأصبح طريقاّ نحو الصح الكبير … وعشقت دعاء أمي بقولها : ” روح يا ابني ، الله يفتحها قدّامك ويسكّرها وراك ” …
كل هذا انطلى على صيغة مفادها أنّ نعيم تلحوق هو شخص آخر لا أملكه .. وتنازلت له عن كامل حقوقي في انتاج الشخصية ومعرفتي لها …
الشيخ نعيم تلحوق في مقهى حمرا اكسبرس ( تصوير يوسف رقة )
8- أمضيت عطلة الصيف العام الماضي في بلدة ضهور الشوير السياحية ما الذي أبعدك عن المدينة؟
ج – أهرب من المدينة بحثا عنها ، كل عام يُتاح لي فرصة أن أخرج من المدينة وتعبها وحرارتها وانهيارها ، فأعود إليها بشغف أقوى … وحين لا يصحًّ لي ذلك ، أبقى لأتصارح معها وأتصارع فيها … حين تهرب الطبيعة من المدينة ، أسرق لحظاتها لتحميني شجرة استظلها ، لتحميني من رقعة السواد ودخان الموتيرات والمولدات ورائحة المازوت والنفايات السامة … إنها مساحة لي كي أعود لأسكن عقلي وروحي وقلبي مرة جديدة …
9- من هو الشاعر الحقيقي بالنسبة لنعيم تلحوق؟
ج – ليس الوقت وقت الشعر في ظل موت القصيدة…وزلزال الطبيعة الذي يحاكي لغة الأرض الزئبقية ، إن السؤال الكبير يقول لنا ماذا يعني وجودنا على هذا الكوكب ؟ لماذا هذه الأنا البشرية الجبّارة القهّارة التي تظن أنها خالدة ولم تصل إلى إنسانيتها بعد...إنها فرصة لنا لنقف أمام أنفسنا أمام هول الطبيعة حين تدافع عن نفسها ونحن نمعن فيها طعناً ، في الوقت الذي لم نزل نصرّ على طمعنا وأنانيتنا ، في كل حال إن الحديث عن سؤالك في هذا الشأن يطول ، سيكون لي رأي في مكان آخر أعبّر فيه عن الشعر والشاعر… وقد لا يتسع المجال الآن للحفر في وجع الفضاء ، يكفينا وجع الأرض وما عليها … وإنا لله وإنا إليه راجعون … إنّا للشعر وإنّا إليه راجعون…
(يضحك ضحكته المعهودة)
شكراّ لك على هذا اللقاء…
الاعلامية والكاتبة كلود صوما
ضيفك استثنائي متانته روحا وفكرا تجسد فلسفة وجوده.. كل التقدير