في 10 شباط , ذكرى ميلاد الكاتب والمخرج الألماني الشهير بوضع نظرية التغريب في المسرح , ينشر موقع ” ميزان الزمان ” الأدبي بالتزامن مع موقع ” الميادين نت ” دراسة الناقدة والكاتبة هالة نهرا في هذه المناسبة .
مقالة هالة نهرا بعنوان :
“كيف منح بريخت المسرح دوراً جديداً واستثمر الشعر؟”
_
كتبت هالة نهرا:
في الذكرى الخامسة والعشرين بعد المئة لولادة المبدع الألمانيّ العالمي الكبير برتولت بريخت (1898- 1956)، لا يزال الأثر الذي حفره في المسرح وأفضية الكتابة الأدبية والشعرية غائراً.
لقد اقترح الرائد بريخت “نظام أَسْلَبَة لنماذج الحياة اليومية التي كانت تمنح المسرح دوراً جديداً”، كما جاء في كتاب باتريسيا Vasseur Legangneux – بعنوان “التراجيديات اليونانية على الخشبة الحديثة/ يوتوبيا مسرحية” Septentrion)). واعتبر الفيلسوف والناقد الأدبي والسيميولوجي الفرنسي الشهير رولان بارت أنهم كانوا عموماً يسمعون تأسّفاً لأنّ زمانهم لم يكن قد أنتج مسرحَ تاريخه، “إلا أنّ هذا المسرح موجود، إنه مسرح بريخت”. وفي كتاب فرِد فِسْشْباخ بعنوان “التطوّر السياسي لبرتولت بريخت من العام 1913 إلى العام 1933” (منشورات جامعة “لِيل” Lille) تتبدّى في مسار بريخت كيفية قَطْعه راديكالياً تجاه الماضي، ومباشرته النضال بصراحةٍ وعلانيةً بواسطة عملٍ فنّي وبأدواته الخاصة من أجل تحوّلٍ ثوريّ للعالم، إلى جانب الطبقة العاملة والحزب الشيوعي.
“الواقعية بالنسبة لبريخت إذا كانت بالفعل وقتذاك الكلمة الأساسية لرؤيته للعالم، فإنه حينما كتب “طبول في الليل” لم يكن يريد الاضْطلاع بدور “الشاهد على زمانه” فحسب، بل كان يريد أيضاً تفريغ نزاعٍ أدبيّ كان يضعه في مواجهةٍ مع الكتّاب التعبيريين ويقابله بهم” (“لاسيتيه”/ كراريس فصلية- 1973 –Travail Théâtral ).
عُرف بريخت بمسرحه الملحميّ المعاكس للنموذج الأرسطوطاليسي، علماً بأنه صاغ نقدَهُ للشكل الدرامي الأرسطوطاليسي “في ردِّ فعلٍ ضدّ التقمّص (Identification) والتطهير، ثم اهتمّ بإمكانية المحاكاة والواقعية النقدية. أخيراً، فإنّ الجدلية في المسرح أتاحت اقتراحه طريقة منهجية لتحليل الواقع وتجاوز التعارضات الملحوظة جداً بين الملحميّ والدراميّ، وبين “الشكلانيّة” (Formalisme) والواقعية (…) نحو نظرية للمسرح الديالكتيكي (…)”، كما وَرَدَ في كتاب “نحو نظرية للممارسة المسرحية” (Pavis Septentrion, Patrice).
تجدر الإشارة إلى أنّ الأوبرا De quat’sous عام 1928 أكسبت بريخت مجداً جليّاً.
يذكر التاريخ أنّ بريخت مُكرَهاً على المنفى أمضى سنوات طويلة بعيداً عن وطنه ألمانيا هرباً من فظائع النازية وأهوالها.
كانت لبريخت أعمالٌ عدّة، نذكر منها “الأمُّ شَجاعة وأطفالها”، و”دائرة الطباشير القوقازية”، و”حياة غاليليو”، و”الخوف والبؤس في الرايخ الثالث”، و”صعود مدينة ماهاغوني وسقوطها” (Mahagonny)، و”جان دارك قدّيسة المسالخ”.
في المقابل، على المستوى الشعريّ نقرأ في كتاب دانيال فراي Frey بعنوان “بريخت شاعر سياسي” (جيرمانيكا) أنّ بريخت الذي يعدُّ اللغة بمثابة عَرَبة للعلاقات الإدراكية/ المدركة، كان يحترس من الصورة والكلمات. بواسطة إحالة المعاني التي كان يجريها، كان بإمكان قصيدته أن تفضي إلى شكلانية جديدة حيث الاستعارة المتصلّبة. الميزة الأولى للصورة البريختية في منظور القصيدة الواقعية هي طابعها الملموس المحسوس العينيّ. ويشير الكتاب ذاته إلى أنّ الاستعارة البريختية لا تولد من حاجةٍ إلى التعبير العاطفي، ولا تبحث عن تقنيع الاغتراب الاجتماعي من خلال إنابتها محلّ الوحدة الضائعة للإنسان والطبيعة. بل إنها قبل كل شيء تتأتّى عن لعبةٍ خاصّة مَنُوطة بكلّ شِعر. الصورة هي خيالٌ يقترحه العالم على الوعي/ الضمير، ما يختاره الشاعر بحرّيةٍ علامةً أدبية.
وبالعودة إلى مسرح بريخت تجدر الإشارة إلى أنّ جان فرديل Verdeil أوردَ في كتاب “ديونيسوس في اليوميّ: essaiللأنثروبولوجيا المسرحية” أنّ بريخت كان يعتقد أنّ تقنية الـ”Lehrstücke” رفيعة، وما كان يتوقّعه بريخت من المسرح هو إدراك المُشاهد لاغترابه الخاص، وليس اغتراب الشخصيات. إنّ توقّعاً مماثلاً يرتكز على مشاركة المتلقّي في العرض. لإيضاح كُنْه الـ”Lehrstücke” يُشار إلى أنها مسرحيات تعليمية (“دِيداكْتيكْ”) تُمثّل شكلاً راديكالياً وتجريبياً لمسرحٍ حداثيّ طوّره بريخت مع معاونيه. علماً بأنها تتولّد من التقنيّات المسرحية الملحمية البريختية. وكمبدأ أساسي تستكشف إمكانيات التعلّم من خلال اللعبة المسرحية وتأدية أدوار، وبتبنّي سلوكيات وأوضاع… علماً بأنّ هذا المسرح مخصَّصٌ للممارسة ويكون التعلّم “عن طريق التمثيل وليس المشاهدة (…) مع إمكانية تواجد المشاهدين” كما ورد في منشورات جامعة “كامبردج” عن المسرح (كريستوفر ب. بالم).
إنّ الأهداف الأساسية التي كان يصبو إليها بريخت عبر مسرحه تتجلّى في الحضّ على صحوةٍ ويقظةٍ على صعيد النظرة النقدية لدى المُشاهد. بنظر بريخت لا بدّ للمسرح أن يؤثّر على عقل المُشاهد ويدفعه إلى التفكير. فبُغيته تنأى عن الشَّجْو وإهاجة مشاعر المشاهدين، متمظهرةً في ضرورة إيقاظ وعيهم الطبقيّ. لم يتغذَّ المسرح الملحمي من قراءةٍ معمّقة للفلسفة الماركسية فحسب، بل أيضاً من “المراقبة والرصْد المتنبّهَيْن للتجارب الفنية الطليعية” سواء في ألمانيا أم في الخارج، وفقاً لما ورد في كتاب “مسرح وسينما العشرينيات” (نصوص جمعتْها وقدّمتْها كلودين أميار- شوفريل Amiard-Chevrel).
تأثير بريخت كبيرٌ على المسرح والمسرحيين في العالم، وقد طال العالم العربي، وصولاً إلى لبنان حيث أفادنا الكاتب والمخرج والمسرحي يوسف رقّة في حديثه إلى الميادين الثقافية بأنّه أصدر كتابَين (وهما نصَّان مسرحيّان) من المسرح الملحمي يستندان إلى المنهج البريختي ومنهج التغريب: الأول بعنوان “أحلام يومية” صادر عن دار “غوايات” في بيروت، والثاني بعنوان “33 صلاة في جوف الحوت”. منذ البدايات، تجربة رقّة مع المسرحي الشهير جلال خوري (الذي كان لأعمال بريخت تأثيرها البيّن عليه) حضّتْهُ على التعمّق بمسرح بريخت. وقد اشترك عام 1970 في فرقة المسرح لـ”إتحاد الشباب الديمقراطي” التي كان جلال خوري وأنيس سماحة من المشرفين عليها. عملَ رقّة أيضاً مع جلال خوري في إعادة لمسرحية “قبضاي” وكان إلى جانبه الممثّل الراحل المعروف رفيق نجم. بعدما اكتنزت تجربته عملياً وأكاديمياً في عالم بريخت قدّم رقّة مسرحية “رجل برجل” لبريخت في إقتباسٍ لبناني واختار لها عنوان “الشاطر” عام 1999. علماً بأنّ الممثل الكبير عمر ميقاتي قد اشترك فيها بطولةً، مع ناجي شامل وعددٍ من خرّيجي معهد الفنون، بينهم علي كلش وعلي السمّوري ورانية مروّة. عُرضت المسرحية في المعهد الثقافي الألماني “غوته”، مروراً بـ”مسرح بيروت” عام 2000، وصولاً إلى بلدة العبّاسية في الجنوب عام 2001، ونالت استحساناً نقدياً وتكلّلت بنجاحٍ لافت. وأشار رقّة إلى أنّ بريخت أثّر على المسرح اللبناني كلّه وأنّ الذين عملوا فيه أجمعين تأثّروا به بطريقةٍ ما.
ختاماً، في الذكرى 125 لولادة الفنّان الألماني التقدّمي الملتزم والمثقّف الثوري الموسوعي، نستحضر عبارته المفيدة للفقراء والجياع راهناً وفي كل زمانٍ ومكان: “أيها الجائع تناوَلْ كتاباً فالكتابُ سلاحٌ”.
الكاتبة والاعلامية هالة نهرا