(سلسلة انعكاس – الحلقة 11)
“مأساة الذّباب” من وحي رواية “العبوديّة” لمكسيم غوركي
بقلم : د. لارا ملاك.
-×-×-×-×-
” لم يكن أحدٌ يتمتّع في بيتنا بالحرّيّة، إلّا الذّباب وحده” – (العبوديّة – مكسيم غوركي)
قد يكون الوصف – وصفُ الذّباب – بلاغةً كاملةً من أزيز. حين أترك أذني للأشياء كي تنهشني فتأكل منّي سمْعي، والقليل القليل من لساني. أبقى عبدة المرآة، لأنّي لا أسمع، لأنّي نصف متكلّمةٍ، ورائيةٌ مرئيّةٌ بكلّ سذاجة الضّوء حين يبيح الطّريق للعارفين وللغائبين عن العثرات.
حين أنتظر حتّى تنتظرني الشّمس كأنّني واصفةٌ الضّوء للضّوء. “أين وحدتي؟” يقول كرسيٌّ في لوحةٍ، في ليلٍ، في وجدٍ، في خيال.
“فتحتُ لكِ اللّوحة، فأين يداكِ؟”
العبوديّة سترةٌ باليةٌ، حيلةٌ رثّةٌ كي تضحك المرآة. جسدٌ نحيلٌ، أم فمٌ بخيلٌ، أم طعامٌ غامضٌ، أم دواءٌ مستقيلٌ، أم وجهٌ لا يريد. “أين أنفكِ؟” يقول الكتاب الّذي أقرأه ولا أشتمّه. أنساه فقط كوردة عاشقٍ لم أرد أن ألحظه، لأنّه من النّصّ مقدّرٌ مكلومٌ، مملٌّ، مستهلٌّ جرحًا بجرح.
“لمَ؟” كان هذا سؤال الذّباب حين سكتَ لثانيتين، ثمّ استكمل ما رآه دربَ الفاكهة. ودربُ الفاكهة حرٌّ، ما دام الشّبّاك مفتوحًا، ما دام العسل يوارب كي يكون سكّرًا مطبوخًا بلا سمٍّ وبلا رؤيا.
أخشى على الموتى، بل من الموتى. أخشى أن يعودوا. لا تعودوا، فقد اعتدنا ترك القلم مفتوحًا قرب القصيدة، وتحت المدفنة.
جسد المريض نعاسٌ مفتوحٌ قرب قلمٍ فارغ. أين جيبُكَ كي أترك لي رسالةً حارّةً، ثمّ أذوي في قميصي، ولا يُحييني أيّ عطرٍ نسائيّ. من قال إنّ هذا العطر للنّساء وذاك لا؟ من نصّبَ للعطر جسدين، وللذّاكرة جسدين، وللسّيجارة جسدين؟ من قال للجسد أن يستكين حتّى نبعَت في ذهني فجأةً هذه الذّاكرة؟ من أرادني حتّى كساني بجسد؟
فلنكن مرّةً كالشّمس، ومرّةً كالذّباب. مرّةً نتعرّى، ومرّةً نئنّ. مرّةً نصحو، ومرّةً نقول إنّنا صاحون حتّى نغفو. مرّةً عارفون، ومرّةً ندّعي ذلك. مرّةً نضحك، ومرّةً نضحك بالرّغم من أظفارنا المغروزة في القصيدة، بالرّغم من السُّكْرِ الّذي يصير كريهًا حين نعي كم رحلنا، وكم عدنا، وكم أردنا، وكم أرادونا عبثًا.
رسول الموت، يتخيّله الرّسّامون ذبابةً طرأت على اللّوحة فطبعَتها برشاقة فراشةٍ، وبمكر ثعلب. مكرٍ لا تتّسع له جدران الغرفة فتضيق حتّى تضيق في العينين النّافذة، وفي اليدين ما بقيَ من الشّمس حين غاب كلّ شيء.
الأنف الكبير ما كان غموضًا، فتدلّى فوق الشّفتين مفضوحًا برزانةٍ بالغة. هو سمرةٌ تتنفّس ولا تضحك. هو سنواتٌ سقطت على الوجه، فأصابته، وصارت فجيعته وثبات مرآته.
أن تصير أسود، كأنّكَ نظّفتَ ألف مدخنةٍ أو صفعتَ ألف ذبابةٍ فوق وجهِكَ. أن تصير أسود كألف شيءٍ حدث فجأةً واختفى. هكذا تحدث المصائب فجأةً، والقصائد أيضًا. هي قصديّة اللّغة حين ترمي السّهام كي تصيب الخيالَ السّارح. هي تواضع القلبِ حين يقنص ضرباته، فيطرق من الأبواب تلك المفتوحةَ حتّى الغياب، تلك المنتظرةَ كأنّها حضورٌ مفتوحٌ على الغيب.
ليس الحبّ أن تقول “أحبّ”، كأنّكَ تقتل ذبابةً كي تستريح فقط. الحبّ أن تثقل القمح بقشره كي تحميه، وبلبّه كي يحميك. هو أن تعتذر إلى السّنبلة إن سرقتَ منها قمحةً أو قبلةً أو وعدًا.
مأساة الذّباب أنّه ابتلع حرّيّته، وطار ولم يحطّ أبدًا. مأساته أنّه خوفنا من أن نسمع كلّ هذا الغياب مرّةً واحدة.
سألني حبيبٌ سارحٌ في الغيم لماذا يدي في يده، ولماذا شفاهي في وجهي فقط، ولماذا لا أخاف حين أستعيد نفسي منه بعد الحبّ، أو لماذا أستعيد الحبّ دومًا من عينيه؟ سألني كثيرًا لماذا هذه العبوديّة كلّها؟ لماذا نستعير القبلة، ومن ثمّ نعيدها إلى وجهينا؟ لماذا نعيد وجهينا أثرين حارّين على المكان؟
سألني الكثير، والمسرح هناك أنوثةٌ فارهةٌ فارغةٌ لا تمتلئ، والأجساد فوقه دمى تدّعي الحبّ والكلام. سألني والصّوت يستدير على نفسه، وأنا على خطّ الزّمن أبتسم، والضّوء وليمةٌ عمياء، والوقتُ لا ينتظر لأنّكَ الجدولُ، والتّرابُ فرارٌ بجانبين.
من هاوية المسرح تركتُ لكم ملابسي، وزينتي، والشّفاه الحمراء، والأظفار الّتي اصفرّت من فرط التّشبّث، ومن وفرة الخمر الباردة، ومن شحّ الدّم الحارّ.
الإنسان حجرٌ تختاره ذبابةٌ حرّةٌ وتقول له كلّ سريرتها، فيجلس مثقلًا بصوتٍ واحدٍ يحزّ مسامّه الدّقيقة. قالت له الذّبابة إنّ الحياة ملعونةٌ كفايةً لمن لا ينسى، لمن يحكّ رأسه بنسيج الماضي الهشّ.
هل يحقّ لي أن أموت؟ أم يحقّ للموت أن يستعبد بعض أطرافي؟ أم يحقّ للجسد الكسيح أن يدّعي المسير؟ أهي طاعة الخوف أم طاعة النّجاة فوق كلّ الرّسل وفوق كلّ الرّسائل؟
الاحتضار أعمق من الموت، لأنّه لا يعرف من الموتِ وجهًا، لكنّه يضحك كأنّه بوجهٍ كامل. الاحتضار هو الموت الغامض قرب المدفنة، وقرب عظامكَ وتحت جلدكَ. هو أن تسكت فجأةً، كي تبكي على سنديانةٍ أخضرُها أمرُّ منها. هو أن ترتجف كساعةٍ دُفِعت خطأً عن حائطها، وما زالت أبعد من الوقت تعتذر، مع أنّها غير نادمة، وغير قادرةٍ حتّى على النّدم من أجل ثباتٍ واحد.
هذا الذّباب حرٌّ أكثر من مركبٍ يحاول السّفرَ مع الرّيح، لأنّه نسيَ كيف يحاول عكسَها، وكيف يحمي على الأقلّ أيديه منها.
حرٌّ بصوتٍ واحدٍ هذا الذّباب، وأنا بمئة صوتٍ أجرّ رسائلي خلف يدي، وأهذي.
الكاتبة د. لارا ملاك