“وليم”.. الطفل الذي أرّقني !
مقالة الكاتب د. بسّام بلّان
-×-×-×-
لا أذكر أنني شعرت بالقلق والخوف بالقدر الذي حصل لي يوم إلتقيت قبل أيام بالطفل وليم.. قلقٌ حوّل ليلتين من لياليّ الى حالة أرق حاد لم أنم خلالهما إلاّ بضع ساعات.
وليم طفل لايتجاوز عمره السبع سنوات، وهو إبن أحد زملائي المقربين. لطالما والده حدثني كثيراً وطويلاً عن ذكائه والأسئلة غير النمطية التي يطرحها، وحبه للناس وعدم خجله من مقابلة الغرباء وفتح أحاديث معهم، فضلاً عن شغفه بالرسم والألوان.
دعاني هذا الزميل لزيارتهم في المنزل.. ومن لقائي الأول بـ “وليم” لم أشعر أنه غريب عني، ربما بسبب أحاديث والده عنه.. وهو أيضاً لم يُشعرني أنه يتعامل معي كشخص غريب يلتقيه للمرة الأولى.
دخلت منزلهم، وأنا متشوق للتعرف عليه ومعرفة إن كان حديث والده عنه مُبالغ فيه، كما كل الآباء الذين يتحدثون عن أبناءهم ومدى إعجابهم بهم. وبعد أن تعارفنا وسملت عليه، جلس بجانبي نتجاذب الحديث.. سألته أولاَ عن الرسم، فأحضر على الفور دفاتر الرسم الخاصة به وراح يطلعني على رسوماته ويشرح منها ما يظن أنه بحاجة للشرح وما يمكن أن يلتبس فهمه عليّ.. أراني عشرات اللوحات، وأنا أتفاعل معه بإهتمام، وأجاريه بالكلام عما فهمته في هذه اللوحة أو تلك.. وللنقاش أكثر معه أتظاهر بأنني فهمت هذه الرسمة أو تلك بصورة خاطئة وأترك له الحبل على الغارب ليتحدث هو بنفسه عنها.
عندما انتهينا طلبت منه أن يرسمني.. فقال لي إنه غير ماهر في رسم الوجوه.. فكررت طلبي إليه بأن يرسمني حتى ولو تعبيرياً بما يُظهر فهمه لي وإنطباعه عني.
أخذ دفتره وقلم الرصاص الى الطالولة في ركن الصالون، وعاد بعد دقيقتين برسمه عن “شخصي الكريم”.. وهنا كانت المفاجأة التي فتحت عليّ أبواب التفكّر والأرق. فالرسمة التي عاد بها لم أتوقعها ولم يتوقعها أحد من الحاضرين، حتى والديه أصابتهم المفاجأة أيضاً.. بينما هو قدمها لي وضحك بصوت عالٍ، ضحكة ممزوجة بخبث طفولي واضح.
أما رسمه التعبيري عني فقد كان عبارة عن شكل المستطيل يتوسطه رمز الدولار ($).. وعلى الطرف العلوي من المستطيل كتب الرقم واحد وعلى يمينه عدد كبير من الأصفار (؟!!). تأملت الصورة للحظات كانت كافية بأن تفتح فيّ الشهية لعشرات التساؤلات التي أرقتني ليلتين كاملتين، وما زاد من حدّتها أن لاشيء في جلستي أو أي مظهر مما كنت عليه يوحي بأنني فعلاَ رجل غني مالياً لأشبه ذلك الرسم، بل حالي كما هو حال تسعين في المئة من الموظفين الذين ينتظرون رواتبهم آخر الشهر وهم مثقلون بإلتزامات لاتعد ولاتحصى، إذاً: ما الذي جعل هذا الطفل ينظر إليّ بتلك النظرة.
حاولت تفسير ذلك، ودائماً كان لكل تفسير ما يدحضه، لأنتقل إلى غيره وأدحضه أيضاً.. وهكذا مرّت عليّ ليلتين ثقيلتين، خاصة عندما خرجت من دائرة التساؤولات البسيطة السهلة، الى تساؤلات تطال الشخصية وتكوينها والحياة وأسلوبها والطريقة التي يتم تقديم الذات فيها للآخرين (؟؟).
الأسئلة والتساؤلات هذه لم تستثنِ أحداً ممن أعرفهم من دوائر حياتي المختلفة؛ بدءاًمن شديدة الضيق ولغاية أكثرها اتساعاً.. طالت الأب والأم والأخت والأخ.. الزوجة والإبن والاصدقاء والزملاء والجيران والمعارف.. ولأول مرة شعرت أنني أضعت فرصة كبيرة في حياتي وهي تغافلي عن أن أعطي إبنيَّ عندما كانا طفلين ورقة وقلم ليرسما انطباعهما عني وموقعي في حياتهما، وكنت أقول ليتني فعلت ذلك، فكم كنت سأتعلم وكم كنت سأعيش مختلف المشاعر بتناقضاتها واختلافاتها، وهي تجربة في غاية الإثارة والجديّة.
كنت أسأل: لماذا لم ألعب هذه اللعبة مع أصدقاء طفولتي، ولماذا حرمت نفسي من أن أعرف موقعي بينهم، خاصة وأنه عندما كنا نتخاصم يُخرجُ كلُّ واحد منا حقائقَ ما بداخله عن الآخر؟
كيف سأضمن إن طلبت هذا الطلب من إبني اليوم، وقد صار في العشرين من عمره، أن يجسد إنطباعه عني ومكانتي عنده برسم انطباعي صادق بلا مجاملة.. وأسأل: هل سيرسمني زهرة أو شوكة أو قلباً أو جلاّداً أو قطة أو كلباً.. أو قلماً أو ممحاة أو رمحاً مكسوراً أو ماكينة صرّاف آلي؟.. وكذا الأمر بالنسبة للزوج والزوجة والأصدقاء وزملاء العمل، خاصة أننا نعيش زمن المصالح المتشابكة جداً والنفاق اللامحدود لأجل هذه الصالح.
وفي المقلب الآخر سألت نفسي: هل لديّ ما يكفي من شجاعةِ وبراءةِ وليم لأرسم إنطباعي عمن هم حولي برسم تعبيري كما هو فعل؟
وأجيب: لا أظن فقد اعتدنا أن ندير ظهرنا ونُكمل طريقنا، غير آبهين أو مكترثين بأحد، بإستثناءات بسيطة جداً لأسباب وغايات متعددة، بعد أن مللنا محاكمة أنفسنا والحياة وشخوصها، وبعد أن تأكد لنا بأننا لسنا دائماً على حق، ولن نكون ابداً على حق بالمعنى الكامل.. وبعد أن انتشرت كما النار في الهشيم مواعظ ونصائح ومقولات ومحاضرات “أساتذة التنمية الذاتية” الذين يركزون على ذاتية الفرد كونه المصدر الأوحد لكل شيء في حياته وهو ملهمها ويمكنه الاستغناء عن كل من حوله لأنه هو مصدر سعادته وهو مصدر تعاسته وهو مصدر ألمه وقلقه.
سأعترف أنني وجدت في نصائح هؤلاء ما يريحني للحظات، وخاصة بعد سؤال نفسي عن مدى أهمية إنطباع الآخر عني، ما دمت أقوم بما يميله عليّ ضميري وبما تمليه عليّ وقائع حياتي ومسؤولياتها.. ولكنها راحة سرعان ما تتبخر وتذوب عندما أعود الى رشدي وأتذكر أنني كائن في وسط بيئي يؤثر ويتأثر ويتفاعل معه سلباً وايجاباً خيراً وشراً، وبالتالي لايمكنه تحرير مشاعره بالمطلق.
والخلاصة، تبقى معادلة الذات والآخرين ومرآة الذات ومرآة الآخرين من المعادلات المعقدة جداً وصعبة المنال.. والأكثر من ذلك مطلوب عدم الوقوف أمامها معلنين عجزنا عن حلّها، فهي تحتاج منّا العناء والتأمل والتفكير وطرح الفرضيات مهما استغرق ذلك من وقت وفي أيّ عمر كان. هي بحث عن الذات قبل البحث عن الريادة والتفوق أو النجاح في امتحان، لأن كل ما سبق لايمكن إيجاده قبل معرفة الذات وإيجادها.
وأقول ناصحاً: إبحثوا دائماً عن “وليم بريء صادق”، كبيراً كان أم صغيراً.. وإتركوا العنان لأسئلتكم وتسلاؤلاتكم، لأنكم ستكتشفون أنه لاتوجد لحظة في حياتكم تغمركم بالسعادة كتلك اللحظة التي تجدون فيها أنفسكم بحيث تمكنكم من الوقوف على كامل حقائقها.
د. بسّام بلّان
من وليم إلى بسّام :
شكراً جزيلاً على هذا المقال الجميل
لقد عبّرت عني بطريقة أحببتها
اسمك يناسبك لأنك تبتسم دائماً 😁
مقالة مميزة فيها شفافية الصدق مع الذات
شكرا