قراءة في رواية (امرأة – امرأة ثانية – ثلاث نساء) للأستاذ المحامي و الكاتب ريمون زيادة ..
بقلم الكاتبة والشاعرة : غادة رسلان الشعراتي
-×-×-×-×-
قراءة في رواية (امرأة – امرأة ثانية – ثلاث نساء) للأستاذ المحامي و الكاتب المبدع (ريمون زيادة) :
لأن الكتابة لا تقل قدسية عن الحب عبَّر و عبر بنا نحو قصة زواج بكل معطياتها ليسرقنا منا و ينسج أمامنا ثوب الزواج بكل بهرجاته و تفصيلاته و تلوناته و تلوثاته و لوثاته و جنونه و اهتراءاته ، فتعود به الذكريات نحو امرأته الأولى الواحدة الوحيدة المستوحدة التي لم يصل أبداً إلى فراشها ، ليتقلب وحيداً في قلب بطء عملية جراحية خطيرة تحاول رتق و ترميم آثار جراحه ، فينتقل بعدها بذكرياته نحو المرأة الثانية ، المرأة التي لا تنطفئ وكأنها زهرة الغاردينيا التي تموت في نهايات عروض أزيائها لتعود فتقوم إليه و منه في فترة عيد ميلاده كل عام ، هي امرأة الحرية الجائعة التي لا تلتهم كل حريتها حتى لا تشبع منها ، فهي تعرف كيف تجوع و لا تجوَّع و لا تجوِّع غيرها ، هي إمرأة حتى العظم ، و من ثم يعود بنا نحو امرأته النهائية فهي غير الأخيرة ، هي امرأة الحب المسفوك في حياته ، ليدرك معها أنه لا يمكن لأحدهم تفصيل امرأة على قياسه ، فيبقى هو مع حلمه ، خبزه السماوي المرتجى مع امرأته الأخيرة التي لم يلتقِ بها أبداً ليجتمعا داخل أروع حالات الحب ، يلمح عبر عينه الثالثة عبور ملامحها فيطلق حرية البحث عنها ، كما يتوقع محاولاتها لملاقاته فيثوران معاً على صنمية المحيط ، فهو لا زال يتمنى و يشتهي عثوره عليها حتى في يوم زواجه ممن اعتقد هو أنها تشبهها ، ليعيشها بروحه لا بخياله …
قوة المرأة لدى كاتبنا (زيادة) ليست بجمالها و لا ببلاغة مجاملاتها و إنما في قدرة جمعها بين رقة ميزاتها و رقي اتحاد أقوالها بأفعالها ، فهي القادرة على اعتقال العقل رويداً رويداً باسم الحب …
بفلسفة عالية يدخلنا الكاتب (زيادة) نحو مكامن أسرار الزواج و الحب فيحدثنا عن أساطير الالتهام المتبادل بين الرجل و المرأة المتناقلة فوق ظهور الخجل و المتحولة في المخيلة البشرية الجماعية إلى قصص الحب ، يحاكي الاقتحامية المزعومة لطبيعة الرجل و الانكفائية المستَضعفَة التي تشهرها المرأة التقليدية و تشتهر بها كلما تحدثت عن وقوعها في الاستدراج التكتيكي التاريخي الذي ألزمها تبنِّي ممارستها ، و كأن فعل الالتهام داخل مخادع خِدع الحب تتم بانقضاض الذكر على لحم الأنثى ليخرجها منه و ليقذفها إلى خارجه ، و تتلذذ هي باستقبال و تخزين ما كان ينقصها لكي تكمل جمع مكونات الذي يعيش فيها منذ اكتشافها لطبيعة وجودها ، ليولَد من هذا الحراك الملتهِمون و الملتهَمون الجدد …
غلاف الرواية للكاتب ريمون زيادة
يتجه كاتبنا بنا نحو أسطورة الخلق الذكورية و التي أوجدت المرأة من قلب لغز أعلى من قدرات فهم العقل البشري و استيعابه مما أدى لنشوء مدارس عشوائية فكرية و دينية متعددة لقضية وجود المرأة ، و المرأة المعنية بالقضية الأصل باتت موقوفة و محتجَزة لدهور تنتظر الإفراج عن نطقها و منطقها ، لم تُشرَك في مناقشات تحديد حقوقها ، إلا أنها أمام كل المتبارين لتغييبها قد فرضت وجودها كشريكة أساسية في الحب و في الولادة الطبيعية التي تتم بعد ممارسة الحب …
كاتبنا (زيادة) يبدي رأيه بضرورة حفظ و تدويم بقاء معنى السرير في مؤسسة الزواج كحضن آمن و مطمئن عند الضرورة ، إلا أن غرفة النوم قد تصير مقر اعتقال و احتجاز يجمع بين عدوين في سرير واحد أحياناً …
فأن تربح فتنجح و تفرح أمر هام لكن الأهم أن تعرف كيف تخسر فتكبر في تقييم قاموس و ناموس احترامك لنفسك على الأقل ، فهو يستعمل كلمة (بيتنا) و ليس (بيتي) ، القفص الذهبي المخادع و كأنه القفص الصدري الذي يحتضن القلب ، فمن الواجب عند فشل الشريكين في ارتباطهما التعامل مع انفصالهما بطريقة راقية لأجل الأولاد لتخفيف الصدمة و ترميم بعض ما ينهار من الجسر الذي يجمع بين ضفتيهما …
يخوض بنا غمارات فلسفته الواقعية لنعبر معه عبر مِزقِ غشاء البكارة ليصل إلى حوض تكوّنه كابنٍ بكرٍ لزواج مُبكر ، ليعبر عبر مزق آخر فيخرج من ثلمٍ إلى لثم حلمة أحلام أقدس الشهوات و أطهرها ، فالحب هو الاسم الملطف للشهوة و الشهوة هي الاسم الملطف للجنس …
كاتبنا لا يخاف الموت أبداً لكنه يكره أن يفاجئه في وقت غير مناسب ، فالموت لا يحاور أحداً و لا يعطي موعداً محدداً لتنفيذ إنذاره ، فيجاهر بأنه لا زال سعيداً لأنه في لوائح قيد الحياة …
و ما زال ممتلئاً بالفرح الطفولي ، يقيم شأناً للمرح الناجم عن مكنونات مناجم الفرح ، يؤمن بالحب ، يداعبه ، يستفزه ، و يستدرجه ببراعة بريئة ، و سيبقى كذلك حتى سقوط ذبابة في كأسه المتروك الذي لم يستطع إكماله …
يتساءل عن موت الروح بعد موت و زوال الجسد فيجد أن مهمة الروح القائمة في مدى لا يستطيع معه الموت بلوغه فيموت ، لأن مهمة الموت ممتدة فقط على مساحات الحياة الوجودية ، و العمر سفرة أو رحلة قصيرة تعني أن علينا أن نرحل …
يميل للانحياز في عمله نحو تبني الحقائق المتمردة حتى لو كانت مؤلمة ، فجدِّية الحقيقة قد تجافي الرقة أحياناً ، إذ القليل من الرقة يحيي قلب الإنسان ، يتفادى الثرثرة بلا جدوى ، خاصة تلك التعابير من تفجُّع و بكائيات فلا يضبط ساعة حروفه على إيقاع غلو مبالغاتها بل على إيقاع نبض بوح لغات الحياة …
برأي كاتبنا أن الزواج أو التزاوج هو فعل تجاوز و نكران إراديين للحقيقة و هي أن لا إمكانية لأي كائن مهما حاول الإلتحام بنا ملء كامل ملامح ذاك الآخر القائم في أعماقنا أبداً ، فالمؤسف لا بل الخطير أن الصراع القائم بين رجل و امرأته يكون منذ بدء نشوئه أو نشوبه أبعد بكثير عن قصص الحقوق و الحريات …
تَنشَّقَ الزواج أنواعاً من عطور بخور المقدسات ، رُفِع إلى أعالي سماوات القيم الأخلاقية و الروحية دون كثير جدوى لأنه بقي ملتصقاً بجسدانيات الدنيويات التي تعتبره مؤسَّسة مؤسِّسة لحب قطاف عنقود الشهوات الذي ينتج أسرَّة مسرات ممتلئة بالأطفال ، لكن في انحرافات أموره عن مقاصدها ، تقع جماعات مجاعاته في فخ خطأ أو خطيئة جمعهم و دمجهم لفعل الزواج في مخلوطة ( دم و لحم فعل تزوَّجا ) ، فالزواج يضم مجازية و مزاجية الضم و الفتح و الكسر و التسكين … و الحب بحسب (دانتي) لا تقدر عليه إلا القلوب النبيلة …
يحثنا الكاتب (زيادة) على مواجهة الذات فهي ليست بحاجة لمرآة ، و الطلاق هو فعل نتيجة تحوّل تلاقٍ قديمٍ بين شخصين إلى نطاق ادِّعاء كل منهما أنه ضحية ظلم مطلق ، حين يسيطر الشك يغدو الدماغ كريهاً قادراً على تسفيه و تشويه جماليات باقي الجسد ، و القضية هنا ليست في كيفية الانتصار بل بنوعية هذا الانتصار ، علماً أن الزواج هو لغم أرضي مغادرته لن تبقيك حياً كما كنت …
فجملة (أنتَ/أنتِ لي) تعبير يختصر غباء الفهم التملكي فلا أحد لأحد و لا أحد باقٍ لأحد ، و يجب الكفّ عن التنقيب في عبثية الفارق بين الزواج عن حب و حب الزواج ، فمن يحب امرأة برأي كاتبنا بعمقٍ و صدقٍ يحب كل جنس النساء …
نَخلصُ مع كاتبنا أننا أمة مصابة بداء الدمار الذاتي فهي تستمر برفع لواء إخفاء فضائح أوحش رجالها من خلال إلهاء شعوبها بأحقية تنافس الذكور على انتهاك و التهام أشلاء أجساد و أرواح النساء ، و برأيه مطالبة المرأة بمساواتها مع الرجل لا زالت سخيفة و عشوائية ، كما أن التأكيد و التوطيد لدى كاتبنا للعروة الوثقى تجمع المتشابهين (كاذب /غبي) الكاذب يقول : امرأتي هي أميرتي ، و الغبي يقول : امرأتي تحت إمرتي …
و يعتبر أن علاقة عشقٍ سرِّية بامرأة ثانية خيانة مذلة لروحية الزواج تشبه خيانة الوطن …
الروائي ريمون زيادة
يتحدث الكاتب (زيادة) عن الفالانتاين المحبوب و بكل طقوس وثنيّاته فلم يعتبره اسم دواء بل اسم داء يعلن عن تفشي وبائه مرة كل عام و نبقى نعاني من مؤثرات الإصابة به في كل الأيام الأخرى ، فيه تنحر كل الورود الحمراء و تنتعش أسواق هلاك الاستهلاكات العشوائية و تهتز له أسرَّة الأسر المدمنة على نومها الطويل …
أما العذرية لدى كاتبنا فهي قيمة حالة روحية – فكرية لا جسدية كما في المفهوم السخيف و الهزلي عن العفة ، لأن عنوان المرأة ليس المكان الذي يقيم فيه جسدها …
فعندما تتحول السماء إلى فراش شاسع لممارسة حب قصوى بين روحين نقيين يشهق الله و يشعر بحاجته إلى إيلاد المزيد من الملائكة ، و هذا يشبه كَورَس ترتيلة الخشوع …
برأي كاتبنا المبدع أن حقوق المرأة لا تعطى بل تسترد ، فمن قال ظلم المرأة لا يكون ظلماً للرجل ؟ و من قال استرداد المرأة لحقوقها هو تجريد الرجل من حقوقه ؟ وصولاً بنا لكل جريمة (لا شرف) يرتكبها شرفنا بسبب نقطة دم بكارة واحدة سقطت ، جريمة ( لا شرف) قد تحرض عليها امرأة أيضاً …
فممارسة حق مشروع تحت مسمى زواج يحمل في كثير من الأحيان صفة البغاء …
الوقت و الموت لدى كاتبنا مفهومان لا يفهمهما الحب و لا يعترف بهما ، لأن الحب يومض و ينبض و يخفق و يشع و ينتفض من جديد حتى من داخل عتمة القبر …
سر المرأة يرهق كاتبنا منذ المراهقة فهي سرية أكثر من الرجل ، فهل هي الملتحمة بكينونته لتسلخه صيرورته عنها حتى لا يصيرها ؟
المرأة الحبيبة لدى المبدع (زيادة) هي كاهنة هيكل الروح تشبه باريس التي لم يفهمها ، باريس التي غادرها عاشقاً لأحلامها المستحيلة ليتماهى بوطنه لبنان و يتجسد وجعه و يعيش مع أطفاله المساكين ما يشعرونه من الخوف و ما فعلته الحرب بهم …
إلا أن عجين الأرض يضخ عبق الخميرة الإلهية و الأمل بوجود من يشارك في إنجاح وصول مسيرة الخلق لمقاصدها بأمانة و انضباط صادق لن يخبو …
تحية عطرة بلون الفرح و الجمال لكاتبنا (ريمون زيادة) بروحه المبدعة و الموغلة نحو عمق المعنى و كثافة المبنى و بحروفٍ سُيِّجت بالبهاء و تبتَّلت بسحر الأثير …
غاده رسلان الشعراني
الكاتبة والشاعرة غادة رسلان الشعراني