قراءة الكاتبة أماني غيث لرواية ” الطقس مناسب للموت ” للمؤلفة زينب فياض :
-×-×-×-
لم تكن مجرّد رواية، بل كانت إجابات عن أسئلتي. أُقسِم أنّي قبلها، لم أكن أعرف كاتبتها جيّدًا، هي لا تنشر نصوصها عبر وسائل التّواصل، ولا تطارد الإعلاميّين بغية ظهورٍ ما، ولا يغريها الضوء فتركض خلفه.
بعد قراءة هذا الكتاب، سؤال واحد شغلني: ماذا عساي أن أفعل، كي أصبح زينب فيّاض؟ وكي أكتب مثلها؟ هل عليّ استعارة رأسها؟ أم أوجاعها؟ أم حزنها وقلقها وخساراتها؟
ثمّ سرعان ما راودني سؤالٌ آخر: هل على أسمائنا أن تُكتب من اليسار إلى اليمين كي نصل إلى ما نستحقّ ككتّاب؟ أم على عناوين كتبنا أن تكون مجموعة حروف لاتينية كي تفوز بالجوائز؟
تمحورَت رواية “الطّقس مناسبٌ للموت” حول موضوعٍ رئيس، وهو البحث عن الأمّ، ولكنّ موضوعات أخرى طُرحت في هذا الكتاب : فهم النفس، الصّراع مع العائلة، سيكولوجيّة المرأة، “المالتزيانيسم”
le malthusianisme
أي رفض الإنجاب، العلاقة مع الله، الموت، الفنون، السّياسة والوطن (الأزمات الأخيرة الّتي عرفها لبنان)، والوطن الآخر(إيران)، العلوم (علم النّفس، علم الاجتماع، الأنتروبولوجيا).
اعتمدتْ الرّوائيّة تقنيّة تعدّد الأصوات
(la polyphonie)
، متيحةً لنا فهم طريقة تفكير كلّ من الشخوص ومعرفة دوافعهم وأسبابهم، ما عدا شخصيّة واحدة وهو الأبّ، الّذي أرادته خاضعًا ضعيفًا منهزمًا، لم يدافع عن أسرته ولا عن قلب ابنه.
دارت أحداث الرّواية في مكانين أساسيّين، لبنان، القرية وبيروت، وإيران، التطوّر والفنون، مكان احتمت به البطلة.
الزمن الأساسي، كان بين 2019-2021، تاريخ صدور الرواية، قاطعها بعض الرّجوع إلى زمن الحدث الأهمّ 1995 : لأكثر من مرّة لتغذّي تشويقنا ببعض فتافيت ما حصل .
غلاف رواية الكاتبة زينب فياض
الأنا والعائلة: الصّراع
كان لا بدّ للرّوائيّة أن تبدأ من حيث أمر فرويد: الطّفولة. فبجملةٍ واحدة على لسان شيرين مقارِنَةً بينها وبين حبيبها سرمد، استطعْنا فهم تشكّل هذا الأخير: “طفولته المضطربة وطفولتي السعيدة، مراهقته التعسة ووعيي المبكر، جنوني الحالي ونضجه المتأخّر”.
إنّ أكثر ما نلحظه عند سرمد، الفاقد لأمّه ( اختفت)، هو العدائيّة تجاه العائلة، وتجاه فكرة الإنجاب (“المالتزايانيسم”). فالوالدان هما، حسب سرمد، “إرث ثقيل”، متحدّثًا عن “ترّهات الأبوّة والأمومة.”عبارة ذكّرتني بفيلسوف معاصر سيرلانك، سمعته مرّةً يقول:” اليتيم هو أكثر الأطفال حظًّا في الحياة، لأنّه لم يلمس الصّفات الكريهة لوالديه.”
وصف سرمد الطّفل ب”مادّة لزجة”،” لا يحبّذ أن يزوّد الكون بها لأنّه يخشى أن يكون إرثًا ثقيلًا على كتف طفلٍ ما.” وهم، أي “الأبناء منتج رقيق بحاجة لإله يحتضنهم”، ووصل به التّشاؤم للتّجرّؤ والقول: “لو كنت إلهًا لأخذتُ برأي كلّ طفلٍ أرسله إلى الحياة”. حتّى الأمّ نينار والّتي يعني اسمها “إلهة الحكمة”، التقت مع ابنها في هذه الفكرة، حين رأت نفسها “أنانيّة”، عندما أنجبت طفلتها، “لتتسلّى”.
الغضب من المجتمع:
حال سرمد، كأيّ شخصٍ عانى في طفولته من “تروما” أي صدمة، أو فقد: الرّفض، النّكران، الكآبة والميل للعزلة، ستكون نتائج طبيعيّة لما عاشه. وهو رافض ل”قوانين المجتمعات الحمقاء”، ولديه أزمة مع النّساء، باستثناء حبيبته شيرين “المشاغبة “، “صانعة الفرح”، والّتي تتحمّل حزنه. هو على مشكلة مع “اضطراباتهنّ، مللهنّ، والهستيريا” الّتي يصبن بها.
هذا المجتمع الّذي يحقد عليه سرمد ويحرص على عزل نفسه عنه، هو ذاته صورة حبيب أمّه الأوّل، البطل القديم الّذي سيتحوّل إلى وصوليّ يتاجر بسمعته الحسنة وبتاريخه المشرف، أليس هو نفسه سبب مشكلة سرمد برمّتها؟!
حتّى زلفة، النّسويّة التّي تساند المرأة وتطالب بحقوقها وتهاجم تعدّد الزّيجات، ألم تقبل في السّر أن تكون شريكة امرأة في زوجها؟ أيّ تناقض تنتقده فيّاض وتبثّ سخطها عليه كلّه عن طريق سرمد؟!
قتل الأم LE MATRICIDE
في الرّواية، تقتل زينب فيّاض الأمّ مرّاتٍ عدّة، حين أعطتها صفات لا تشبه تلك الّتي يأمرها بها المجتمع مطالبًا بمثاليّتها، برحيلها ودون أيّ شرح أو توضيح، فهي “فنانة تشمّ عطر ما ترسمه وأمٌّ لم ترغب بأن تكون مضحيّة، وحبيبة اختارت أن تنتقم، وزوجة تكره الملل”، وكلّ هذه صفات كفيلة لتُقتل في مجتمع يرفض الخروج عن شارته. قتلتها يوم جعلتها “تهرب من المنزل الذي يحتوي بكاء (ابنها) ومن حزنه الذي ما زال على الاريكة نائمًا”. قتلَتها يوم لم تُقنع ابنها بحبّها وبفهمها، حتّى في غيابها، عبر ترك صكّ البراءة. وقتلَتها جسديًّا في ختام الرّواية، يوم انفجار 4 آب، وبعد استعادتها فرح ابنها ووجهه. وكأنّ قدر الأمومة أن تظلّ ناقصة، ومشوّهة في رأي الروائية.
الكاتبة زينب فياض خلال توقيع روايتها في معرض بيروت للكتاب ( تصوير يوسف رقة )
الحب:
لم يحجب “الطّقس المناسب للموت” أهميّة الحبّ، إذ كان هو ما يتصدّر المشهد، ويلعب دور البطولة، علاقة شيرين وسرمد كانت أمتن من أن تفرّقهما الأمزجة المختلفة، والطباع المتناقضة. تقول شيرين:” قلب الرجل لا يستطيع الفكاك من عشق ثلاث نساء: المجنونة منهنّ، وظلّها، وكلّ أشيائها.” لقد حاربت معه بكلّ أسلحتها، لولاها لما عرف سرمد بالحقيقة. ثم إنها قبلت برغبته بأن يظلّا خطيبين وقتًا طويلًا، ورغم معرفتها برفضه الإنجاب.
أمّا سرمد، فكم من مرّةٍ قال لها: “غيابكِ قصيدة حبّ”، وكم مرّة تلصصّ إلى “صوت دقات قلب(ها)”
الفنّ:
في “الطّقس مناسبٌ للموت”، الفنّ يخترق حياة معظم الشّخصيّات، فها هي الأمّ نينار تبرّر ذلك شارحةً لابنها: ” وأنت تكتب روايتك، تذكّر أنّنا نحن الخائبين لا نفلح إلّا بالفنّ: والدتكَ رسمَت وأنتَ كتبت!”. الاشتغال على الجنس الرّوائي ومفهوم هذا النّوع الأدبي تكرر كثيرًا في هذا العمل: “نحن الرواة آلهة رواياتنا، نقرّر ما نشاء وكيفما نشاء، نحن القضاء والقدر لكلّ الّذين جلبناهم إلى صفحات القصص، خلقناها من خيالنا الشّرِه”. ثمّ تعترف الرّوائيّة بواسطة لسان سرمد: “الكتّاب يدفنون جثث أفكارهم المشوّهة في الرواية”!
الرّسم، هواية نينار وفراس، هو أيضًا مهيمنّ على النّصّ، ذكرَت الروائية بعض موادّه وأدواته ومدارسه، ولجأت إلى إيران واقفةً على تطوّر هذا الفنّ فيها. ما لفتني هو ما قالته نينار: “الجميع يتحدّث عن الرّسومات دون التطرق للروائح المنبعثة منها” ! فهي أضافت رأيها ورؤيتها بهذا الفنّ.
الوطن والثّورة ثمّ الموت:
-أعجبني جدًّا تأطير الأحداث في أبعاد زمنيّة وعبر ذكر مناسبات وتواريخ كنّا جميعنا نحن اللبنانيين شهودًا عليها. ما أضفى على النّصّ صبغة واقعيّة وبعدًا توثيقيًّا. تطرّقت الكاتبة إلى الأزمات الراهنة والقريبة دون أن تكون طرفًا، فهي مع الجميع وليست ضدّ أحد.
-لافتة جدًّا نظرة زينب للموت، وكلامها عن أنواعه، وتصالحها معه، وحكمتها التي اختتمت فيها صفحات الرواية.
مع الفلسفة والانتروبولوجيا وعلم الاجتماع، لا لعلم النفس:
عالجت الرواية الأحداث وفق طرائق علوم كافّة، كان جليًّا تأثّر الرّوائيّة بعظام المفكّرين، واقتبسَت منهم، دون أن يفلتَ السرد من يدها، فمن “عندما بكى نيشه”، إلى “نبيّ العدمية سيوران”، إلى “الحداثة السائلة التي تكلّم عنها زيغمونت باومن”. لكنّ من الواضح كان استخفافها بعلم النّفس، فبرأيها: “كل هذه البشرية مملوءة تناقضات لذلك يفشل علماء النفس بمعرفة مكنونات البشر.” وهذا ما يفسّر خيارها بأن يكون بطلها- اللابطل، طالب علم نفس، وفي الوقت نفسه، مكتئبًا طوال الوقت، وجاهلًا لوعيه ولا وعيه، ومع أنه يلجأ لمعالِجة نفسيّة، هي الأخرى، لا تستطيع له شيئًا.
في الختام، أجدد إعجابي بهذا العمل المحبوك بإتقان، وبلغته الشاعرية الفلسفية العميقة، إلّا أنّ مشكلة واحدة تعثّرت بها هذه التحفة الأدبيّة، وهي أنّ الكاتبة أرسلت النسخة غير المدققة من الملف إلى النشر، عن طريق الخطأ، لذا فنحن موعودون بطبعة ثانية منقّحة.
الكتاب صادر عن دار زمكان ٢٠٢١، ١٦٠ صفحة
الكاتبة أماني غيث ( تصوير يوسف رقه )