يا حبيب أمّك..
بقلم الكاتب : د. بسّام بلّان
-×-×-×-×-
عندما كنّا أطفالاً صغاراً نلهو في زقاق الحيّ، كان أحد أترابنا عندما يريد الإحتجاج على تصرف من تصرفات ولد آخر يقول بصوت عالٍ: لاااا يا حبيب أمّك.
وعندما كبرنا قليلاً وذهبنا للمدرسة، كان أحد معلمينا يكرر العبارة نفسها، عندما يريد الاستهزاء بأحد الطلاب.. فيقول له بإحتقار: اذهب يا حبيب أمّك.
تكرر الأمر مرة ثالثة، في المرحلة الاعدادية، وصادفني مع مدّرس إحدى المواد.. فكان يردد دائماً العبارة التالية: هيك الجواب الصحيح.. سامع يا حبيب أمّك؟.
عندما كنت طفلاً، كنت أرّد على زميلي بالقول: لا علاقة للأمهات باللعب. وأحذرك من تكرار هذه العبارة. أما لماذا كنت أشعر بالإهانة جراء قوله ذلك؛ فلليوم لا أعرف.
في المرحلة الإبتدائية، لم يكن لديّ من الشجاعة ما يكفي كي أجيب المعلم بالجواب ذاته.. فكنت أكظم غيظي، وأكثر ما أستطيع فعله هو مراقبة وجوه زملاء الصف لأعرف أيهما ابتسم أو ضحك عليّ عندما كان المعلم يقول لي ذلك، لأثأر منه في الفسحة المدرسية أثناء الاستراحة، أو أتقصد الشماتة به بلا حدود عندما يتعرض هو للموقف نفسه.
في المرحلة الاعدادية.. إتفقت مع أصدقائي أن نفاتح الأستاذ بالموضوع، ونقول له إن الأم أو اسمها أو الغمز من قناتها أو كل ما يمت لها بصلة، لا يجوز أن تكون كلمة للتداول في الصف وبين التلاميذ. وأنه، أي الأستاذ، عندما يخاطبنا بـ “يا حبيب أمّك” إنما يُشعرنا بإهانة شديدة، واتفقنا أن نبلغه وكنا يومذاك عشرة طلاب، أننا سنترك الصف والدرس إذا ما قالها لأحد وبصورة جماعية.
دخلنا لغرفة المدرسين، وطلبنا من الاستاذ أن يعطينا دقيقة على انفراد، وأخبرناه بما اتفقنا عليه.. وكانت مفاجأتنا سارّة أن الأستاذ قابل الأمر بايجابية ووعدنا بألاّ يكرر هذه العبارة مقابل أن نكون مجتهدين.. ونبذل جهداً أكبر في الدرس والدراسة. وهذا ما حصل فعلاً.
أصبح في عمري اليوم حزمة غليظة من السنين، ولا أعرف بالضبط إن كانت تلك العبارة يُقصد بها المدح أم الذم.
في المطلق، ودون الرجوع الى السياقات التي كنت اسمعها بها، إنما هي أصدق حالة يعيشها الإنسان. وكلنا يعرف إن الإنسان أي إنسان، سيبقى حبيب أمه حتى ولو انقطع من الكون كل محبيه.
وفي السياق أيضاً، لا يكون الانسان، أي إنسان، حبيب أمه وأملها وعزوتها، إلاّ إذا كان بارّاً بها. وبر الوالدين قيمة القيم في كل الشرائع والنواميس.
و في مقلب آخر، ربما يبغي قائلها التأكيد على أنك “أنت” وصلت لحالٍ من السوء جعلت المُحب الوحيد لك هو أمك فقط.. وفي ذلك شتيمة لك وليس لأمك، والمطلوب منك الالتفات حولك والتأكد إن كان ذلك صحيحاً أم لا.. وينقضي الأمر.
وفي مكان ثالث، لايزال مجرد ذكر المرأة؛ الأم الأخت الحبيبة، الزوجة أو الابنة، في الثقافة الشرقية هو نوع من الإهانة والشتيمة للرجل، و ربما “هتك العرض”.. وهذه بالطبع ثقافة بالية، لأن المرأة كانت ولاتزال وبأي موقع من المواقع محل فخر واعتزاز، وكم من الرجال الذين يتمنون حمل لقب أمهاتهم الأكثر جدارة ومسؤولية في الحياة من آبائهم.
وربما ليس بخافٍ على كثيرين أن المرأة عند الكثير من الشعوب، هي التي تمنح لقبها لأبنائها.. وليس الأب.
وقد يكون المقصود بها أن الحياة ليست رئيفة بك كأمك، وتعطيك من الدروس والعِبر بكل قسوة، فلا تظنها للحظة أنها أمك ستصفح لك وتمسح أخطاءك دون أيّ مطالب منها.
وأخيراً؛ لا أعرف بالضبط ما الذي دفعني لكتابة هذه الكلمات اليوم، ولكن ما أتمناه من أعماقي هو أن أسمع كل لحظةٍ صوتاً يناديني:
يا حبيب أمّك. سأطرب ولصداه داخل نفسي وخارجها.
الكاتب د. بسّام بلّان