الفن الخالد محاكاة لفكرة العبور
“إنكار الموت” كتاب يلامس اسئلة الكينونة: أين هي الحقيقة في الجسد ام في الرموز ؟
زاوية “السبت الثقافي “بقلم الكاتبة والاعلامية دلال قنديل
-×-×-×-×-×-
غلفت فكرة الموت فنوناً متنوعة ورافقت الاثر الفرعوني، لعل اهمها المقابر التي تمتد على عشرات الكليومترات في أصوان والأُقصر . زرتها مثل هذه الايام قبل عامين،كانت خالية من الزوار بسبب الوباء.اصوات خطوتنا في تلك الدهاليز المضاءة بفوانيس كهربائية صغيرة تثير القشعريرة في الجسد.كنا كأننا نذهب في طريق لا رجعة فيها.مأخوذين بسحر المنحوتات الجدارية في الاقبية بألوان تعشقتها. رهبة الموت وسطوته تصارع ألوان حية تضيء اقبية المقابر الضخمة التي تشهد على تاريخ حافل بأساطير حيكت بحكمة عن رعب الموت وتقليص المسافة اليه .
لفتني في تلك المقابر تخصيص حقبة كاملة من فنونها لفكرة العبور ، بينها ماخصص للأطفال الذين ينتقلون باكراً الى الضفة الاخرى.هاجس الخلود الذي طبع المرحلة الفرعونية قابلته فنون غربية جسدت الموت جزءاً من سيرورة الحياة طبعت حقبات عدة لأشهر المبدعين.تأتي الفكرة وتروح اما المعلقات والجداريات فتحاكي على مر العصوركل تفصيل بسيط منها تحدي زوال الانسان وتواضع قدراته امام تطويع الموت للحياة .
دفق الزوار للكنائس الايطالية لا يتوقف في فترة الاعياد هذه الايام. هو العام الاول بعد اجراءات الحد من الوباء. ابرزها كاتدرائية سيستينا في الفاتيكان التي تشهد لفنان عصر النهضة الاشهرمايكل انجلو بإثارة جدل القيامة وتصويرها بملائكتها وشياطينها. لوحات انجلو بكل الصخب الذي اثير حول تعريتها الكائن البشري تقحمنا للتفرس بما ورائيات الحياة .
يتسلل للناظر رهاب الموت ورجاء العدالة المنتظرة، قد تأتي وقد لا تأتي. لكن متى كان للمتخيل ان يؤخذ بحسابات الواقع وجدليته؟
كل ما نحياه يشدنا لرؤية مغايرة للكامن خلف المعاش .
الموت لعله يقترب اكثر فاكثر، يلامس هذا الكائن العصري الهجين.
معظم ابناء بلادنا العربية يلسّعهم سوط الايام كعقاب لانهم تمردوا حتى على الموت، او ربما تمرد عليهم بعدم اراحتهم من عذاباتهم المستدامة في بلاد القهر والنهب والقمع والصراعات.
الفارق شاسع بين القصور والمنازل المحظية بالدفء وبين الشوارع حيث يئن الفقراء جوعاً ويموتون بصمت.
في زحمةالاعياد يكبر الفارق.
غلاف كتاب ” إنكار الموت ” ل أرنست بيكر
“إنكار الموت” هو عنوان كتاب صادم . هل نتغالب على الخوف من الموت بإنكاره؟ يقول ناشر الكتاب الصادر عن دار نابو العراقي الشاب سامر السبع إن هذا الكتاب قد غيّر حياته .
المسألة تتعدى فكرة الموت وارتباط هاجسه بالحياة المتسترة خلف رعبه بإستثناءات قليلةجعلته كرنفالاً يُحتفى بحدوثه في بعض الاعتقادات القديمة، إنطلاقاً من سيطرة فكرة الخلود ورحابة المنتهى في العبور.
الكاتب ارنست بيكر يستهل ادخالنا في دهاليز مدارس علم النفس بحكمة اسبينوزا ” لا تضحك ، لا تندب حظك ، لا تلعن ، بل إفهم”.
أحد عشر فصلاً في ثلاثة اجزاء يرسم الكاتب فيها تصورات ومفاهيم الفلاسفة وعلماء النفس تحت عناوين متشعبة لثلاثة فصول :انكار الموت، ذعر الموت، اخفاقات البطولة. يقدم لفكرته والدوافع بالقول:
“لقد نما في داخلي على مدى السنوات الماضية إدراك مفاده ان مشكلة المعرفة الانسانية لا تعالج بمعارضة الآراء المخالفة ودحضها بل باحتوائها في بنية نظرية اوسع. تتمثل احدى مفارقات العملية الابداعية في انها تصيب نفسها بالعِطل الى حد ما حتى تعمل بشكل صحيح”.
“حاولت فهم فرويد ومفسريه وورثَتَه وتقطير علم النفس الحديث واعتقد انني نجحت في مسعايّ”.
يتردد اسم اوتو رانك واحد اشهر كتبه “الفن والفنان” في سياق ربط التطور السايكولوجي بالقامات الفكرية كيركغارد وتقديم حجة لدمج علم النفس والمنظور الاسطوري الديني.
كتاب مرجعي ، يحفر في مدرسة فرويد وتشعباتها لينتقل باتزان على ما بنيّ عليها وما نقضها او رسخ بعضاً من جوانبها.أعادتني قراءته الى كتاب سعيد ناشيد الصادر عن دار التنوير “التداوي بالفلسفة” كهمزة وصل ومدخل لا بد منه لكل راغب في التعمق بالمدارس الفلسفية.
يستوقفنا في كتاب” إنكار الموت” استحضار العَالم الانتربولوجي آرثر هوكارت الشهير بنظريته عن البدائيين الذين لم يعكر صفو حياتهم الخوف من الموت .
كأنه يسعى الى تقريب الافكار بتفتيتها وتجزئة نظرياتها وتسييل مرتكزاتها.اجمل الكتب ما يحفزنا على سعي الاحاطة بالمزيد عبر قراءة كتب اخرى فكيف بكتاب يتناول نظرة علماء النفس بالتتابع لقضية شغلت البشرية ولا تزال
” الموت” .
“ما هي الحقيقة بشأن الوضع البشري؟ في الجسد الحقيقة ام في الرموز ؟ ان لم تكن الحقيقة واضحة، فلا بد ان هناك كذباً يقبع في مكان ما. وهذا هو التهديد.”
هو تحفيز على ادراك اسرار الكينونةفي سيرورة اكتمالنا الى اللامنتهى .
” الاكتئاب يلخص كلاً من رعب الحياة والموت والتوق الى تخليد الذات الى اي مدى من البطولة يمكن ان يصل المرء؟ من الطبيعي جداً ان تحاول ان تكون بطلاً في الدائرة الصغيرة الآمنة التي تمثلها العائلة او الدائرة التي يصنعها الحبيب وان تستسلم لل” الانزواء المتكتم” بين الحين والآخر للحفاظ على هذه البطولة في مأمن.كم عدد الاشخاص الذين يحوزون على هبة ذاتية مستقلة ليقدموها للكون من اجل ضمان خلودهم الخاص؟”
واضحة تأتي اجابة الكاتب : “وحده الشخص المبدع يمكنه فعل ذلك بينما لم يعد الشخص غير المعقد يمكنه اخفاءفشله في ان يكون بطلاً.”
تنساب الافكار بإشكاليات معرفية محيرة ومحفزة على مزيد من البحث على مدى 353 صفحة ليُترك للهوامش صورة اكتمال عدد الصفحات الى 376 .هي ميزة اخرى تضع الكتاب في مصاف المراجع العلمية المفتوحة على سلسلة معرفية تقارب الحقيقة في الاسئلة الوجودية.
دلال قنديل
( ايطاليا )
الكاتبة والاعلامية دلال قنديل