” جمهورية نزار قباني ”
بقلم.: د. وفاء مرزوق
(شاعرة وكاتبة من الجزائر)
-×-×-×-×
دمشق.. تلك الأرض المسقية ماء وشعرا وبذور ياسمين، الحاضنة لجبل قاسيون وأشجار المشمش والكرز والتفاح والدراق والجوز، وليس بوسعها أن لا تفوح مزارع الدراق كما يقول نزار في إحدى قصائده، فرائحة الحب قد سكنت ربوع دمشق مذ زارها طائر الشعر وغرد تحت شجرة النارنج ومن على أغصان الورد البلدي وزهر الأضاليا والنرجس، وشرب من فسقية الدار، وغفا بقلب صاحبها.. نعم تلك هي حبيبة نزار قباني ومهده الأول، وتلك كانت قبلته أينما حل وارتحل، فهو من حملها في قلبه، وفي شعره، وفي لغته الشامية التي يطيب له أن يفخر بها، وهي التي رافقته عبر محطات حياته، وحملت اسمه في حبل وريدها، وفي أحد شوارعها أين كان يركض الصبي الدمشقي مع طيور الحب والشعر ، لقد كان نزار قباني أميرا دمشقيا جميلا توجه الشعر ملكا على قلوب الملايين من قرائه ومحبيه.
الشاعر نزار قباني
وإذا كان الحب مملكة المحبين والمغرمين والمتيمين بالعشق، فإن الشعر جمهورية كما يرى نزار قباني، والكتابة عمل انقلابي وثوري، وعلى الشاعر أن يكون في كل حالاته، ديمقراطيا إلى أبعد الحدود، في جلسته، وفي لغته، وفي أسلوبه، كما عليه أن يمارس حريته دون قيد أو شرط ضمن النسق العام للنظام الشعري.. فلا مجال للدكتاتورية والقمع الفكري والوجداني في جمهورية الشعر، ولا مستقبل لشاعر يمارس الإرهاب اللغوي على من يقرؤونه .
هكذا إذن كان نزار قباني شاعرا ديمقراطيا يريد للكلمة أن تأخذ مكانها في ضمير كل فرد، وبالكلمة كان يريد أن يصل إلى جميع الناس، كبيرهم وصغيرهم، غنيّهم وفقيرهم، مثقفهم وبسيطهم، الكل في نظره كان جديرا بالقصيدة، طالما لديه ما يحمله إليها، وما يمد جسور الوصل بينه وبينها.
منذ البدء كنت مع الديمقراطية الشعرية
كنت أؤمن أن الشعر هو حركة توحيدية لا حركة انفصالية
وأنه همزة وصل لا همزة قطع
وأنه فن الاختلاط بالآخرين لا فن العزلة
وأنه فن الملامسة والحنان لا فن إلقاء القبض على الآخرين واغتصابهم شعريا
لقد كان نزار قباني شاعرا ثائرا يريد بالثورة أن يوثق لتاريخ من الحضارة والجمال وأساطير الحب العظيم، ولمجد الحرية والحبيبة ولمجد القصيدة أيضا. لقد اختار أن يثور بشعره وبكلماته ضد ما رآه عصورا من الظلامية والاستبداد، وضد كل زيف وافتعال وتصنع، وضد الاستنساخ والاستنزاف، وضد القمع الجماعي والعنف السائد، فلطالما اعتبر الشعرعملية صدامية من الطراز الأول وعلى الشاعر أن يأخذ مكانه في المقدمة على خط المواجهة، إذ لا يمكن لأحد أن يأخذ إجازة من التاريخ ثم يدعي بأنه شاعر عربي، فالكتابة تورطٌ لابدّ منه، وليس لشاعر أن يرجو هدنة أو استراحة محارب.
هو شاعر
إنه يقنع الأشياء أن تغير عاداتها،
أن تسير في مظاهرة من أجل الحرية
–
إذا كان شعري لا يتصدى
لمن يسلخون جلود الشعوب
فلا كان شعري
يقول نزار قباني: “ورثت عن أبي مهنة صناعة الحلوى في شعري ومهنة صناعة الثورة، لأنني كنت دائما ثائرا في شعري”، فالثورة بهذا الشكل عملية لابد منها للانقلاب على الموازين كافة، التي تحصر الكلمة و القصيدة في قالب مغلق. وليس صحيحا أن وظيفة الثورات إلغاء كل الأنظمة، إذ يفترض أن تحمل كل ثورة حقيقية نظاما وتصورا معينا وإلا أصبحت ضربا من الانفلات، كما لابد للثائر الحقيقي، سواء كان ثائرا سياسيا أم ثائرا شعريا، أن يحمل تصورا لشكل المستقبل، لأن كل شكل هو نظام، وبغير هذا النظام تصبح الثورة والقصيدة عملا من أعمال الفوضى والتسيب.
الشاعر الحديث
هو الذي يستقيل من الجوقة الموسيقية
وسلطة الإيقاع العام
ليؤلف قصيدته الخاصة
يؤلف الشاعر قصيدته ضد سلطة الإيقاع وليس ضد سلطة الشعر ونظامه، فالشعر العظيم يكون باستعمال لغة الحياة. هكذا كان يفكر نزار قباني وهكذا كان يكتب، ضمن الإيقاع أوخارجه، فلا سبيل للاستغناء عن شعرية الشعر، كما لا دواع تفرض وضع صولفاج لنشيد العصافير وتغريد البلابل، فبعد خمسين عاما من كتابة الشعر، هاهو نزار قباني يكتب عن الحرية بحرية، الحرية التي لطالما تغنّى بها منذ ديوانه الأول، وتزوجها كما يقول في إحدى قصائده “تزوجتك أيتها الحرية”، الحرية التي تلبسه ثوب نفسه كإنسان وكشاعر وليس يونيفورم الشغل أو ثوبا معدا للعمل.
الحرية تحررني من كل الضغوط التي يمارسها التاريخ على أصابعي
تحررني من كل أنظمة السير ومن كل إشارات المرور
الحرية تحميني من غباء آلات التسجيل ومن السقوط بين أسنان الآلات الناسخة
تحميني من ارتداء اللباس الموحد والقماش الموحد واللون الموحد فالقصيدة ليست مجندة ولاممرضة
ولا مضيفة طيران
الحرية تسمح لي بأن ألبس اللغة التي أشاء في الوقت الذي أشاء
إنني هارب من نظام الأحكام العرفية في الشعر
كما أنا هارب من قوانين الطوارىء ومن لزوميات ما لا يلزم لا أسمح لأحد أن يتدخل بأشكالي
فقد أكتب المعلقة الطويلة
وقد أكتب التِلِكس الشعري القصير
وقد أكتب قصيدة التفعيلة أو القصيدة الدائرية أو قصيدة النثر
وقد أتزوج القافية ذات ليلة وأطلقها في اليوم التالي
وقد أتصعلك كعروة بن الورد
وقد أرتدي السموكن كاللوردات الانكليز
وقد أخطب على طريقة قس بن ساعدة
وقد أعزف الجاز وأغني على طريقة البيتلز
إن حريتي تدفعني إلى ارتكاب حماقات كثيرة
ولكنني لا أعتذر ولا أندم
فالشعر بدون حماقة هو موعظة في كنيسة
وبيان انتخابي لا يقرأه أحد
كل ذلك، ربما كان لإقامة جمهورية الإحساس كما سمّاها في قصيدته “مخطّط نزاري لتغيير العالم”، تلك الجمهورية التي تلغى فيها الشرطة والحدود والأعلام واللغات والألوان والأجناس، وتلحن فيها الأشجار والأقمار والأمطار، وتغدو الشمس قنديلا من النحاس، والصحراء بساطا من الشجر والعشب الأخضر، فهل كان نزار قباني مجرد شاعر يتفنن في تنميق كلماته وإخراجها في ثوب حسن، أم كان بالفعل مهندسا بارعا في تأليف الأشياء وترتيبها وضبطها وفقا لإيقاع الإحساس نفسه؟.لقد وصل نزار قباني بشعره وكلماته إلى ملايين القراء في العالم العربي، ليس بإطلاقه سراح القصيدة فحسب ولكن أيضا بكسره لجميع الأقفاص التي يمكن لها أن تجبرها على البقاء سجينة أو رهينة، وضبط قصائده على مقياس ريختر وعلى عدّاد نبض القلب.
نزار قباني
وإن كان لابدّ من الاعتراف بمدرسة نزارية في الكتابة الشعرية، فهي حتما ستكون مدرسة الحب وتذوق فن الشعر، إذ لم يكن نزار قباني ليطيق القوالب الشعرية الجاهزة، ولا اللباس الموّحد للشعراء، هو الذي لطالما جهر بنزعته الثورية وجموحه نحو الحرية وممارسة الجنون في عوالمه الخاصة. لقد استطاع أن يتخلص من عمامة الفرزدق وعباءة المتنبي، كما بادر إلى سحب الغطاء من على طاولة الشعراء، معلنا بذلك عصرا جديدا لحرية التعبير وحرية الكلام، وحرية اللباس اللغوي والشعري، إلا أنه مع ذلك لا ينسب شيئا لذاته وحدها ولا لأحد بعينه، بل ويؤكد على أن الجميع متورط في فعل الكتابة، ومشارك في تحديث منظومة الشعر ككل.
الحداثة مقطوعة موسيقية جماعية بدأت في الثلاثينيات وشارك فيها كورس كامل من الشعراء العرب المقيمين والمغتربين
وكل من يدعي أنه بتهوفن الشعر العربي الحديث، يجب أن تقام عليه الدعوى بتهمة النصب والاحتيال
العاشق الدمشقي الذي تفوح من أعصابه وعروقه روائح التفاح، كما يفصح في قصيدته الدمشقية، يتحدث عن المرأة كما يتحدث عن الحضارة، فهما في نظره سيان، فلا حضارة من دون مشاركة تامة وحقيقية من النساء، ولا تقدم لهن من دون تدخل الحضارة، ودور الرجل إنما يتمثل في صون المرأة وتشجيعها على الجلوس معه في المقاعد الأمامية، لا احتكار المكان والزمان، وجعل كل الوثائق الرسمية باسمه ولحسابه الخاص.
في أشعاره، تحدث نزار قباني عن المرأة بلسانه تارة وبلسانها تارة أخرى، لأنه يريد أن يستنطقها، يريدها أن تثور معه، فهو مؤمن جدا بدورها، كما هو مؤمن جدا بمشاركتها الفاعلة حتى في الثورة، وهو ربما ليس الوحيد الذي رأى فيها مصدرا ملهما للشعر، لكنه لم يعتقلها ولم يصنفها ولم يجعل منها تمثالا، ولا بروازا جميلا على صفحة كتاب، بل هي في نظره شريكة في الرأي والتعبير، وصاحبة قرار، ولها أحاسيس ومشاعر مثلما للرجل تماما فهي تحب وتكره وتضجر وتنتفض وتحنّ وتسامح وتثور إن لزم الأمر. إن تاريخ نزار قباني مع النساء هو تاريخ شاعر مع نصف العالم، والاهتمام بنصف العالم ليس بالأمر القليل كما يقول.
أنا الذي حميت وردة الأنوثة
من هجمة الطاعون
والذباب
أنا الذي جعلت من حبيبتي
مليكة تسير في ركابها
الأشجار
والنجوم
والسحاب
أنا الذي قد هرب السلاح
في أرغفة الخبز
وفي لفائف التبغ
وفي بطانة الثياب
أنا الذي ذبحت شهريار في سريره
أنا الذي أنهيت عصر الوأد
والزواج بالمتعة
والإقطاع
والإرهاب
خمسون عاما من العطاء، خمسون عاما من العشق الأزلي للشعر، فمنذ دخوله هذا العالم أحسّ الفتى الدمشقي أن زرقة البحر وزرقة السماء تواتي عينيه الزرقاوين، وتمتد منهما، فهو ينظر إلى الأبعد، لكن قلبه مازال يرفرف في باحة الدار الدمشقية.لقد عشق دمشق كما عشق عروبته التي راح يجسّ نبضها في كل مرة وكأنه جرّاح أو طبيب بشري يريد لمريضه أن يأخذ حقنته ليتعافى، تنقله عبر عواصم العالم لم ينسه عروبته ولا لغته الشامية، ولا رائحة الفل والنعناع التي ظل يحملها في حقائبه من بلد لبد، إلى أن قرر التخلي عن عمله في السلك الدبلوماسي في سبيل تفرغه للكتابة، لقد كان قدره أن يعيش بالشعر وللشعر وحده، فعلى الرغم من أحزان العرب وعلى الرغم من فقدانه لأعز أقربائه، لم يتوقف عن الكتابة، بل ظل يكتب ويكتب، لأنه ولآخر لحظة في حياته كان مؤمنا بمبادئ ثورته وبقوة التغيير في الشعر كما كان مؤمنا بقرائه مثلما آمنوا به.
السكنى مع الشعر في بيت واحد لمدة خمسين عاما كالسكنى في العصفورية لا تعرف فيها طبيعة مرضك ومتى سيطلقون سراحك
كالسكنى على حافة البركان لا تعرف متى يهدأ ولا تعرف متى يثور
كالزواج من امرأة مجنونة لا تعرف متى تعانقك ولا تعرف متى تخنقك
ليس هناك مزاح مع الشعر
فإما أن يعطيك الميدالية الذهبية وإما أن يسبب لك الذبحة القلبية.
( بقلم د. وفا مرزوق / كاتبة وشاعرة جزائرية )
د. وفاء مرزوق والشاعر نزار قباني