د.راغدة قربان تقرأ نعيم تلحوق:
سرديَّة المعنى بين تأويليَّة الاِمتداد، وقصديَّة الاِرتداد
د. راغدة قربان
ليس من غايتي في هذا المقال أنْ أقومَ بتصويبِ المعنى، أو تغييرِه، أو تجميلِه، إنَّما سأحاولُ قدْرَ المُستطاعِ أنْ أكشِفَ عن سِرّ تشكُّلِه على تلكَ الصُّورةِ التي هو عليها. إنَّ “أرضَ الزّئبقِ “تُعَدُّ قضيَّةً أساسيَّةً لإظهارِ الفَهم، وإنتاجِ المعنى، وقصديَّةِ المدلول، وٱنسجام التَّأويل.
إنَّ الذين يرسُمون الطرقات، لا تُحبُّهم الحياة؛ لأنَّ الطرقاتِ المرسومةَ، تكونُ عاقرًا في كثيرٍ منَ الأحيان. ونعيم تلحوق لا يرسُمُ الطرقاتِ في “أرض الزّئبق”، بل يرحلُ منها نحو الشَّمسِ، إكسيرَ حياةٍ وخلود. ويرى بأنَّ لدينا إخوةً وأخواتٍ بالرُّوح، وهم موجودون بيننا، قد نعرفُهُم، ونراهم كلَّ يوم، ولا نراهُم حقًّا، ونَسمعُهم يتكلَّمون، ولا نسمعُ أرواحَهم على الرُّغم من أنَّ الرُّوحَ هي التي تتكلَّمُ، ونبحثُ عنهم لنجدَهم، لأنَّنا لا نستطيعُ العيشَ إلَّا مع أقرانٍ لنا بالرُّوح، لكنَّنا لا نهتدي إليهم، فيما هم بيننا. تُرى، هل نعرفُ أنفسَنا ؟ وكيف الذي لا يعرفُ نفسَه، سيعرفُ صِنوَها ؟
نحن لا نعرفُ أنفسَنا من خلال الآخَر، بل نعرف الآخَر من خلال أنفسِنا، والطَّريقُ إلى الآخَر يمرُّ بنا. ولسرديَّة المعنى تأويلٌ روحيٌّ، يفيءُ نعيم تلحوق إليه في هدأةِ المكان، والوحدةِ المُطلَقةٍ، إذ تخلُطُها السَّكينةُ بصمتِ الخالق. لسرديَّة المعنى تشكُّلاتٌ قرائيَّة كثيرةٌ تغوصُ في مساراتٍ تُحاذي ظلالَ النَّصّ المسرود، وتستدعي أشباهَ النَّظائر، وتتمازجُ وقْعيَّاتُ المعنى مع انكشافِه الشَّفيف، وتستحضرُ شخصيَّاتٍ عصيَّةٍ على النسيان، وتغورُ في جوفِ الرُّوحِ العطشى التي تكشُفُ عن مَجلى النور. إنَّ تشظياتِ الروحِ في سردية المعنى، تَشُقُّ نورَها في العالَم كالسَّاقية في الصَّخر.
كتاب الشاعر نعيم تلحوق
وإذا كانَتْ سرديَّة المعنى حركةً للدَّوائر النَّصيَّة الصُّغرى المنطلِقة من الأفعال والأسماء، والأحرف، والتَّراكيب النَّحْويَّة، والأبعاد الدَّلاليَّة للذّهن، فإنَّها عَبْر “شَغَفِ اللغة”، تحاولُ استيعابَ ما اختفى، حتَّى إنَّ انتظامَ المستوى المعرفيّ الاستبطانيّ في تشظيَّاتِ الرُّوح، يُبدي حَيرَتَه في “أرض الزّئبق”، لِتتدافعَ المسافاتُ، وتختلطَ الآفاقُ الرّحابُ بين تأويلاتٍ، وتغمُضَ وتتضَّحَ، لتظَلَّ رؤيةُ نعيم تلحوق مفتوحةً على عالَمٍ حَدْسيّ، يقومُ على مُناشداتٍ روحيَّة، وإنْ شِئتَ فقُلْ: صوفيَّةً تتمظهَرُ في الأحوال، والمقامات، والمواقف.
أمَّا إذا أردْنا العودةَ إلى اكتشافِ وجوهِ المعنى، فإنَّنا نَرُدُّ العودةَ إلى ذاكرةِ التَّأويلِ التي تتراوحُ بينَ قصديَّةِ المعنى، وقصديَّةِ النَّصّ الغائب، علْمًا بأنَّ خطابَ “أرض الزّئبق” لا ينفتحُ إلَّا إذا قُرِئَ من الدَّاخل؛ لأنَّ نعيم تلحوق أرسى لُغَةً جديدةً، تَنفَذُ إلى دواخل التَّجربة، وتَسبُرُ أغوارَها الدَّفينة، وتغورُ مجاهيلُ روحِه مع المجهول وفيه، لتصيرَ المناشداتُ الرُّوحيَّةُ أشدَّ احتراقًا، وليكونَ الغامضُ أكثرَ ارتقاءً، خصوصًا في “ٱنحناء المعنى”.
إنَّ “نعيم تلحوق” لا يُعلنُ عن “أناه” البشريَّة، بل يَعملُ على اختراقها عَبْرَ الزَّمن، ويحوِّلُها في كلّ عودةٍ محطَّةً جديدةً، للقَبض على خيوط الخلاص. ويبقى “جسدُ” المعنى زاويةً من زوايا روحه، حيث يُحاورُ روحَه من خلال الذَّاكرة والصُّورة والمعنى. أمَّا معنى المعنى فقد خَفُتَ في فضاءِ الأحلام، وهدأَ خلْفَ ظنون “مَنار”. لذلك، يكشِفُ نعيم تلحوق عن المعنى من خلال التَّجليَّات الخاصَّة به، وهي في بُعدِها العميق تنهضُ على الظَّواهرِ الدَّلاليَّةِ للصُّورةِ الذّهنيَّة، وليس للموجوداتِ الخارجيَّة. وبالتالي، يكونُ تقديرُ أمكنةِ المعنى صوَرًا ذهنيَّة للتَّمثُّلات الدَّاخليَّة.
إنَّ سرديَّة المعنى عند نعيم تلحوق تبدأ من الذَّاكرة، وتمرُّ في رحلة نحو المَجرَّة، وتبحثُ في معادلة الخوف، وتُبيِّنُ خوفَ الأب عليه من السُّقوط في الفراغ، وتحاولُ فهمَ إنسانيَّةِ الإنسان، وتُجاهِدُ في معرفةِ شجرة المعنى، وتنتظرُ انحناءةَ المعنى المُتساوق مع أحلامه، وتتعلَّمُ نفسُه أن تحملَ يقينَها وتبحثَ عنه بلا قناع. أمَّا بياضُ المعنى فإنَّه يتحدَّدُ من خلال عناصرَ داخليَّة، وأُخرى خارجيَّة. تتحدَّدُ العناصرُ الدَّاخليَّة في البنى التَّركيبيَّة واللُّغويَّة والمعجميَّة، فيما ترتبطُ العناصرُ الخارجيَّة بالنَّصّ وظروف كتابتِه.
وتبقى سرديَّةُ المعنى مَطلبًا مُلِحًّا بالنّسبة إلى المناشداتِ الرُّوحيَّة، التي يجتازُها نعيم تلحوق عَبْرَ روحِه التَّوَّاقة إلى كلّ ما هو متصوَّر، أو متخيَّل. إذًا، هناك حريَّةٌ في تأويلِ أرض الزّئبق، ولكنَّ الحرّيَّةَ التأويليَّةَ ليستْ نابعةً من مُنطلقاتٍ افتراضيَّة صِرفة، بل هناك خطاباتٌ ثقافيَّةٌ متنوّعة، تقومُ على جملةٍ من أفعالٍ قرائيَّةٍ تتساندُ فيها إشاراتٌ سياقيَّة، وتتفاعلُ مع حركيَّةِ المعنى، ومستوياتِ الطَّرح التَّسانُدي للأشكال. إنَّ لغةَ نعيم تلحوق في سرديَّة المعنى هي وسيلةٌ لتفكيكِ العلاقاتِ العتيقةِ بينَ الألفاظ، واستبدالِها بعلاقاتٍ جديدة، تُعبِّرُ فيما تُعبّرُ عن خاصيَّةٍ أساسيَّة، وتعملُ على تحيين مُضمراتِ اللغة، بينَ التِّشكيلِ النَّحْويّ، والحقيقةِ الاِجتماعيَّةِ، والواقعِ الثَّقافيّ الكثيف. هذه اللغة، تُحدِثُ تغييرًا في أشكالِها التي تتراوحُ بين بنية المعنى، وسيميائيَّة الدَّوال.
أمَّا المعنى فهو مُحصَّلُ العمليَّاتِ النَّصيَّةِ والسّياقيَّةِ المتساندة، وهو ليس تجسيدًا لحالةٍ، أو موقفٍ فحسْبُ، بل إجلاءً للخفيّ، وكَشفًا عن المستور، ورؤيةً عن ثنائيَّةٍ متداخلةٍ بين الطاقةِ والعبور، أو بين المُنفعِلِ والفاعل. هذا الإجلاءُ الخفيُّ يتمشهَدُ بانفعالاتٍ تتواشحُ مع “نافذةِ الروحِ الموصولةِ بوحشتِها”، وتتشهَّى الوقوفَ على ناصية الكون، وتتشامخُ على حافَّة الشَّمس، وتنعتقُ من جراح الأرض، وتشقُّ عُبابَ الصَّمتِ بكلماتٍ لَمْ تجدْ طريقَها إلى شفاه الينابيع.
الباحثة د. راغدة قربان مع الكاتب والشاعر نعيم تلحوق خلال ندوة ” تحولات ” في مبنى جريدة السفير
نعَمْ، هذا هو نعيم تلحوق في أرض زئبقِه، يناجي صفاءَ روح الآخَر، ويسترقُ السَّمْعَ على صفات الإنسانيَّة، ويتآخى مع عبقِ الفصول خلف حُجُب الضباب، وسكينة الألوان، ويوقِظُ أناشيدَ الصباح، وألحان “أورفيوس، فوق ذُرى الفجر، ويَسمعُ أودية الرُّقاد العميقة، وُيسافرُ مع البحار، ليذوبَ فيها كقطرةِ زبَدٍ في بحرٍ سيظلُّ النهرُ مشتاقًا لينبوعِه، كقطرة ندى لا تعرفُ أنْ تفتحَ جفنَيها إلَّا بسمةً على ثغرِ الفجر، وقُبلةً على وجناتِ الورد.
لذلك، وَجَبَ التَّمييزُ في سرديَّة المعنى بين تجلّياتٍ كثيرة، ومنها: تحريرُ المعنى، وتقريرُ المعنى، وتبريرُ المعنى، وتنويرُ المعنى، وتطويرُ المعنى، وتحويرُ المعنى، وتثويرُ المعنى، وجسدُ المعنى، وسكونُ المعنى.
ولا نَغلو إذا ذهبْنا إلى القول بأنَّ “أرضَ الزّئبق” اقتربتْ من ماورائيَّاتِ الكون والشّعر والإنسان. وقد ألقى نعيم تلحوق بإيحاتءات سحريَّة متحرّكة، يكشُف من خلالِها عن الأبعادِ التي يمكن أنْ يكونَها الإنسانُ، من دون حذفِ “الأنا” المتعدّدة الصّفات الفعَّالة والفاعلة، والمتفاعلة. إنَّ نعيم تلحوق في كتابه: “سرديَّة المعنى أرض الزّئبق”، يستنسغُ اللامرئيَّات من أنزفَةِ رؤاه، ويُجرِّدُ خِصْبَ الحدْس، ويؤرِّقُ وهجَ النُّور، وينفتحُ معها ضمنَ حالة شعوريَّة تعبيريَّة، تتدفَّقُ بكوامنِها، وجوارحِها وانزياحاتِها، وتعكسُ ملامحَ “الرّحلة نحو المجرَّة”، عَبْرَ الطيورِ، والأزهار، والغيوم، والأمواج. هكذا، يستدركُ تلحوق هذه الرحلةَ تعبيرًا ذهنيًّا لإنقاذِ الذاتِ المسافرةِ عَبْرَ الولاداتِ والدوائرِ والألعابِ الكونيَّة.
إذًا، يحاولُ نعيم تلحوق أنْ يُظهِرَ قضيَّةَ المعنى لارتباطه بالتَّأويل بشكل أساسيّ، خصوصًا من حيثُ إمكانيَّات تشكُّلِه التأليفيّ، والوسائطِ المعتمَدَةِ من خلال ِالنَّسيج النَّصيّ عَبْرَ آليَّاتِه الدَّلاليَّةِ المتحوّلة من وجودٍ بالقوَّة إلى وجودٍ بالفعل.
اخيرًا، إنَّ سرديَّة المعنى تتراوح بين تأويليَّة الاِمتداد، وقصديَّة الاِرتداد، وتتطلَّبُ وسيلةً تواصليَّةً لإجلاءِ “سرديَّة المعنى” الخاضعة لعمليَّات ذهنيَّة، تقومُ في أبرز تجلَّياتِها على انتقاء الدَّلالاتِ الروُّحيَّة نحو آفاقٍ أرحبَ.
بقلم: د. راغدة قربان
( الدراسة ألقيت خلال ندوة أقامتها مجلة ” تحولات ” لرئيسها الأستاذ سركيس أبو زيد في مبنى جريدة السفير في بيىروت )
24/ 10/ 2022
د. راغدة قربان خلال ندوة “تحولات ” في مبنى جريدة ” السفير ”