صدر حديثا عن دار البيان العربي في بيروت كتاب ” رحلة على صهوة جواد ” وهو يتضمن سلسلة من النصوص الأدبية النثرية بين القصة والحكاية والوجدان والموقف للكاتبة ملاك درويش ..
وتضمن الكتاب كلمة المقدمة لرئيس الحركة الثقافية في لبنان الشاعر الأستاذ باسم عباس , كما تضمن قراءة لرئيس منتدى ” حبر أبيض ” الشاعر مردوك الشامي .
غلاف الكتاب الصادر عن دار البيان العربي للكاتبة ملاك ررويش
مقدّمة الكتاب
بقلم الشّاعر “باسم عبّاس”:
من اللّحظة الأولى تُعلنُ الكاتبة “ملاك درويش” شغفَها بالحرف، تأخذُنا إلى فضاءاتٍ ملوّنة وعوالمَ ملأى بالجمال، وعلى أجنحة الألم والأمل تُحلّقُ طفلةٌ تتجاهلُ عدّادَ العمر وسباقَ الأحلام.
رحلة “ملاك” تنطلقُ عبرَ “صوتٍ يتّكئ على عكّاز وقتٍ سقيم”، ويبدو أنّ الكاتبة، عبر تأمّلاتها وقراءاتها، باتَت تَرى أنّ العِبرةَ ليسَتْ في “عشبةِ الخلود الّتي أنهكَتْ “جلجامش”، بل في الأثر الوجوديّ الّذي يخلّدُنا على مرّ البشريّة والأبجديّة”.
وحيثُ “لا استقرار ينشدُها ولا ميناءَ يرجوها…”، تلوذُ بالصّمت، وتأتي قراءتُها “الخيميائيّ” لتزيدَ المشهدَ جلاءً، فتلمسُ أثرَ تلك القراءة في نفسِها، إذ إنّها شعرَت أنّها تقرأُ ذاتَها وحقيقةَ وجودِها، سائلةً: “من قال إنّ للصّمت حدودًا تغتالُها الكلمات؟!”
العشقُ لدى الكاتبة يحتلّ حيّزًا لا بأس به، هي الّتي تُطرب، بملء حنجرتِها، حروفَ الوجد، تنحني في معبدِ العشق، تذوبُ بغيرِ استسلام، ومن دونِ تنازل، صارخةً: “هل غدا العشقُ ضربًا من الجنون؟!”
وبينَ النّظرةِ الأولى والعناقِ الأخير، بين اللّهفةِ الجنونيّة والحنين والخيبات المتلاحقة، بين الجرح الدّفين والكبرياء والأمان والكأس اليتيمة وموت الصّوت الّذي دفّأ روحَها الباردة، بين كلّ هذه العناصر تحضرُ كستناءُ روحِها المتقلّبة على ألحانٍ من عودٍ وناي، مُحتَضَنةً بخيالاتٍ سحريّة، ولَكم يبدو قويًّا تعلّقها بمدينةٍ تزورُها لمرّة، إلّا أنّ هذه المدينة تستمرُّ في زيارتها لها.
وتَبرعُ “ملاك” في حديثِها عن “بائعة السّعادة” حيثُ نرجسةٌ تخايلُ الفجرَ نقاءً، وتروحُ وريقاتُها الثّلاث تنثرُ المواعيدَ والسّكونَ والابتسامات، وصولًا إلى السّخرية من أحجية تُدعى “الحقيقة”. بين الأقانيم الثّلاثة: المحبّة والسّعادة والحقيقة، تحضُرُ ضبابيّةُ المشهد الّذي لم تحتمله الكاتبة، فتوارَت خلف كواليسِه الوريقاتُ، ومضَت “ملاك” تبحثُ عن نرجستها الرّضيعة.
ولشدّة ما أصابَ روحها من ثقوبٍ وندوب، تعاود الكاتبةُ ترميمَ ملامحَ مختبئةٍ في زاويةٍ معتمةٍ داخلَها. وتنهمرُ الأسئلة: عمَّ تساءلتم يا تُرى؟! هل عن فلسفةِ الحبّ المتآكلة ومادّة الشّهوات؟! أم عن الألم المنبعثِ من رمادِ الخطوب؟! أم عن الخواطر المعقّدة كضفيرةِ زهرةِ الخريفِ العربيّ؟!
ومع أنّ الكاتبةَ ترى أنّ ثمّة خواطر كثيرة وئدت، فلم تعدْ قابلة لجرحٍ أو طعن، فهي تعبّر في مكانٍ آخرَ عن أنّ الكتابةَ إكسيرُ الحياة.
شكّلت بعضُ الومضات الفلسفيّة محطّةً مضيئةً في رحلة “ملاك”، حيثُ إنّنا نجدُها تقول: “نعاسٌ يبعثرُ حواسّ الوجود، ينتشلُها من غبارِ اليقظةِ، ويسقطُها في جعبةِ المجهول”… وصولًا إلى مخاطبتها الموت: “من قال لك إنّك موتٌ؟! ألم يخبروك أنّ العدمَ وجودٌ من نوعٍ آخرَ لا بالقوّة ولا بالفعل، بل بالعلّة؟!
أيّها المسمّى موتًا، لك منّا تذكرةُ حياةٍ على الدّوام”.
وبلغةٍ وجدانيّة تأمّليّة، تخوضُ غمارَ المجتمع والحياة، معلنةً أنّ الألمَ علّمها أن تكون عنقاءَ الحلم، والسّفر علّمها أن تنسى ساعتها في حقيبةِ العودة، والحياة علّمتها أن تلملمَ شتات داخلها حيثُ منبع التّغيير، وهو علّمها أن ترسمَ مسافةَ الأمان بين الحبّ والتّعلّق، وجدّتها علّمتها كيف تهوى تجاعيدَ الزّمن حتى تحفرَ عميقًا في ذاكرتها.
“ملاك” الّتي تبرعُ في “كتاب مفتوح إلى وطنٍ مذبوح” و”كتاب مفتوح من وطنٍ مذبوح”، لا ترى سوى عيد المحبّة مُنقذًا، فتخاطبُه: “يا عيدَ المحبّة، كنْ ثوبًا، بل سكنًا لأرواحنا المتعطّشة…”
وارتباطُ الكاتبة بقضايا الإنسان والوطن، يجعلُها ترى أنّ الثّورةَ نارُ الكلم، إن فُقِدَت استحال الأدبُ سرابًا.
“رحلةٌ على صهْوَةِ الكَلِمة”، ليسَتْ رحلةً عاديّة، إنّها رحلةٌ شاقّةٌ لكن ممتعة، كُتبت بلغة الرّوح والعقل، لغة الجمال والتّأمّل والدّهشة. لذا، أرغبُ في أن أستعيرَ من “ملاك”، فأسألها: أأنتِ حبّةُ لؤلؤ؟! أم فكرة؟! أم كلمةٌ في كتابٍ مهجور؟!
رئيس الحركة الثّقافيّة في لبنان
بتاريخ 30-10-2022
رئيس الحركة الثقافية في لبنان الشاعر الأستاذ باسم عباس
قراءة الشاعر مردوك الشامي :
في رحلتها المدهشة على صَهْوَةِ الكلمة
“ملاك درويش” بلغةٍ رؤيويّةٍ عاليةٍ تؤسّس لأسطورتها الخاصّة
حين تكون الكتابةُ وجهًا تقريريًّا للحياة، صورةً عنها تنسابُ بكلّ تنوّعها واختلافها في قاموس البوح، وتأتي هذه الكتابة متكئةً على قلمٍ لا يتقنُ سوى الصّدق، وتدوين النّبض، يكون النّتاجُ لها أدبًا كثيرَ البياضِ والشفافية، لأنّه أوّلًا وأخيرًا ينقلُ الحياةَ إلى الورقِ، فيبعثُ في الورق الحياة.
وحين تكونُ الكتابة سيرةَ كائنٍ بشريٍّ مرهفٍ، سيرة أنثى حالمةٍ وشديدةِ النّقاء، وَجدتْ ذاتها في مجتمعٍ ملتبَس، يكونُ النّاتجُ لها شرفاتٍ مفتوحةً على مدًى لا حدود له، ومحطّاتٍ غنيّةً بتنوّعِ التجربة المعيشةِ الكشّافةِ والرّؤية العالية الهجسِ والنّقرِ على سطور الرّيح.
و”ملاك درويش” في كتابها “رحلةٌ على صَهْوَة الكلمة”، تدقُّ على بوّاباتِ الحياةِ المغلقة، لا لكي تفتحها وحسب، بل لكي تُري القارىءَ ما وراء هذه الأبواب، بصورته العارية دائمًا دونما تلفيق وتجميل ودونما حذرٍ أيضًا…
الكتاب مجموعة من النّصوص النّثريّة في قياس الأسلوب الأدبيّ، نصوصٌ متنوّعة في الاستهداف والغايات، تلامسُ في بعضها الحكايةَ والقصَّ، وفي بعضها الموقف والرّأي، وفي بعضها الشّعريّة والحكمة والتّأمّل في الخيط الواصل ما بين الطّفولة، والرّاهن.
وهذه النّصوص، على تنوّعها، يشدّها خيطٌ سرّيٌّ لا محسوسٌ بعضها إلى بعض، فمنذ العنوان “رحلة على صَهْوَة الكلمة”، ومن الاستهلال والمفتتح، نتابع “ملاك درويش” في رحلة عمرٍ، رحلة بدأت من الرّحم، مرورًا بالحياة ككلّ، وهي اعتبرت رحلتها البداية في نهاية الكتاب، فكأنّها تقول: “هذه بدايتي، بدايتي مع الدّرب، ومع السّفر في الأماكن، وأنا أمتطي خيلَ الكلمةِ وصهوة اللّغة لأحدّدَ مسيرتي في الحياة”.
أيّ اختيارٍ جليلٍ وجميلٍ لمركبة رحلتها، وأيّ استخدامٍ وتوظيفٍ عالٍ لهذه اللّغة اللّمّاحة العالية الكثيرة البلاغة والتّصويب بعيدًا من القومسة والتّكلّف وإحراج القارئ…
الشاعر مردوك الشامي
لغة عالية هي بمقام النّبض لـ “ملاك درويش”، كأنّها امرأة مخلوقة من الحروف، تعيش لها، وفيها، وتاليًا هذه العلاقة تقود إلى تبادليّة إيجابيّة حين يرتفع مستوى الكتابة والتّدوين إلى فضاءاتٍ عاليةٍ لأدبٍ عريقٍ وكثير اللّمح والضّوء.
والدّخول إلى تفاصيل الرّحلة، ونصوصها، يضعنا أمام امرأةٍ ما يميّزها احتفاظها بطفولتها بكلّ ما تحمله هذه الطّفولة الحاضرة من نقاءٍ وبراءةٍ ومقدرةٍ على تعرية الزّيف… الأطفالُ لا يكذبون، ولا يحتاجون أقنعة لدخول نادي البشر المعاصرين، هذه المرأة الطّفلة، الكاتبة الرّحّالة، تصف الطّريق ابتداءً من المحطة الأولى مرورًا بمحطّات بلا حصر، انتهاءً بيقينها أنّ الكتابة وحدها ترسم للإنسان صورته الّتي يريد ويستحقّ.
تتحدّثُ عن خيباتٍ بلا عدد، خيبات شخصيّة عاشتها كأنثى، وتركتْ فيها ندوبًا في مراحل ضعفٍ وقوّة، وهي حين تفردُ أوراقَ قلبها على الصّفحات، فكأنّما تقوم بعمليّة تطهّرٍ حقيقيٍّ من محطّاتٍ كانت على طريق رحلتها الّتي بلا حدود.
وتتحدّث عن الحياة، عن الوطن، عن الإنسان، ترسم الصّورة الشّخصيّة للمجتمع بكلّ ما فيها من خرابٍ وسوءٍ، وتفاصيل ملتبسة…
تقولُ في بعض نصوصها: “هل واقعُنا عقيمٌ؟ أم هي أفئدتُنا أصيبَت بداءٍ خبيث؟” وتقول في نصّ آخر:
“يا لها من أوبئةٍ تستشري في خلايا واقعِنا! ويا لها من تُرّهاتٍ تحيلُنا دمًى للخنوعِ المرتدي قناعًا من قناعة!”
هي لا تطلق أحكامها هكذا، بل تستند إلى مبرّراتٍ تكشف العري العام في الحياة وأبنائها…
وهي رغم كلّ ذلك “فتاة الحياة” كما تقول، عصيّة على التّلوّث والانكسار، تتعكّز على فكر رؤيويّ وسَامٍ، ولا تكتفي بالإشارة، بل تستعير كفّ توما، لتنبشَ الضّلالات والهشاشة في كلّ ما يحيط بها.
لم تترك جانبًا في الحياة لم تمرّ عليه خلال رحلتها، ولم ترسم له صورة واقعيّة وأخرى مشتهاة، فكتبت عن الحياة والموت، عن الحزن والعيد، عن وطنٍ تراه مؤجّلًا، وتخاطبه بكلّ حسرة: “كيفَ لا تكونُ وطنًا؟! هلّا أجبتني..؟!”
ثمّ تعلنها بكلّ صدق:
“وطني يؤلمـني.. يا أنايَ، أيها الوطن المذبوح..”.
لن أستعرض الكتاب وكلّ نصوصه، سأترك للقارئ، القارئ الّذي تريده “ملاك درويش” كما قالت عنه:
“قارئي المقدام،
كن فارسًا يمتطي النّصّ، متجاوزًا تقعيدَ العصور، وأصفادَ الفكرِ التّليد، لتمجّدَ في واحةِ النّصر ولادةً من رحمِ القرطاس..
والرّسائلِ كرسولٍ يقدّسُ نبوءَته.. فكلّ قارئ نهِمٍ يختمُ رسالة َكاتبٍ بنصّ صارخٍ بعدَ مخاضِ الوقتِ العسير..
كنْ قارئًا لا هاويًا حتّى الرّمقِ الأخير..”
سأترك لمثل هذا القارئ أن يجد له الموضع المناسب في رحلة “ملاك درويش” على صهْوَة الكلمة، وأنا على يقينٍ أنه سيجد المتعة والفائدة، ويجد جزءًا منه في محطّات الرّحلة والطّرق والسّطور…
كتابٌ قرأته بحبٍّ، فنادرًا ما نقرأ، في مثل هذا الوقت من الانحدار العام، كتابًا مشغولًا بحبٍّ ودرايةٍ ومصداقيّةٍ عاليةٍ، ومصنوعًا بلغةٍ أدبيّةٍ فيها الرّقيّ والسّطوع…
أقول في ختام قراءتي المتواضعة، رحلة “ملاك درويش” كانت في المكان، وهي تعمّدت إقصاء الزمن، واستعاضت عنه بأزمنتها الخاصّة، لتذيّل بها المواقيت لكلّ النّصوص، وهذا بحدّ ذاته إضافة جميلة، تضع النّصوص كلّها في الرّاهن والمستقبل معًا.
في رحلتها المدهشة، كانت “ملاك” تبحث عن ملاك في المرآة والحياة، تسعى لتصنع أسطورةً ما، تبقى…
أقول بصدق: “ملاك درويش” وجدْتِ أسطورتكِ هي في مراياك ومحبرتك، وفي هذه السّطور .
الكاتبة ملاك درويش
شكرا صفحة ميزان الزّمان💕💕